فهمي هويدي
لم أستطع أن أقاوم سوء الظن حين لاحظت أن بعض الصحف المصرية أبرزت خبر اتجاه بريطانيا لتقييد حق الإضراب، وكلمة «اتجاه» إضافة من عندى لأن الصحف التى أعنيها أعطت فى عناوينها انطباعا بأن ذلك حدث فعلا، فى حين ان قارئ الخبر يكتشف أن المشروع الذى قدمه حزب المحافظين مر فى القراءة الثانية له فى مجلس العموم، وتنتظره قراءة ثالثة قبل إحالته إلى مجلس اللوردات لاعتماده بصورة رسمية. ورغم أن خطوة من ذلك القبيل حين تحدث فى بريطانيا فإنها تصبح خبرا يستحق الإبراز من الناحية المهنية، إلا أن تجربتنا مع الصحف المصرية نبهتنا إلى أن الدور السياسى أصبح مقدما على الدور المهنى. لذلك فإننى شممت فى إبراز الخبر على الصحفات الأولى رائحة التوظيف السياسى. إذ قرأته باعتباره رسالة تحاول ان تفحم الرافضين لقانون التظاهر الذى أثار الغضب فى مصر، بدعوى أن تقييد حق التظاهر ليس بدعة، ولكنه معمول به فى أكبر وأعتى «العائلات» الديمقراطية فى العالم. وهى الحجة التى عادة ما نستخدمها فى تبرير وتمرير العديد من الإجراءات الاستثنائية التى اتخذت بدعوى مقاومة الإرهاب أو فرض الطوارئ. وهو سلوك يثير قضيتين جوهريتين هما:
• تجاهل الخرائط السياسية فى الدول الديمقراطية التى نقارن بها، وإغفال السياق الذى تصدر فيه القوانين التى تحد من الحريات العامة. ذلك أننى حين قرأت خبر تقييد حق التظاهر فى بريطانيا قلت: اعطونا واقعا سياسيا مثل الحاصل فى بريطانيا، وأنا أبصم بالعشرة على إصدار قانون لتقييد التظاهر فى الظروف الراهنة. وأقصد بالواقع السياسى قوة مؤسسات المجتمع ونفوذ المجالس المنتخبة وقدسية القانون واستقلال القضاء، وغير ذلك من الضمانات التى تكبح جماح السلطة وتخضع إجراءاتها للمحاسبة والرقابة، كما انها تحول دون التلاعب بالقانون وتوظيفه لصالح أهواء السلطة وتدابير أجهزتها الأمنية.
من ناحية أخرى فإن مثل تلك القوانين التى تحد من الحريات العامة تعد استثناء فى المجتمعات الديمقراطية فى حين أنها باتت قاعدة فى بلادنا، ثم انها تصدر بضمانات معينة تحمى المتظاهرين كما تحمى النظام العام، ويكون لها أجل محدود، إلى جانب أن ممارسات السلطة طول الوقت تظل خاضعة للرقابة والمساءلة. تبرز المفارقة هنا ان قانون الإرهاب الذى صدر أخيرا فى مصر نص فى مادته الثامنة على عدم المساءلة الجنائية للشرطة إذا استخدمت القوة فى أدائها لواجباتها إذا كان ذلك ضروريا. بالمقابل فإن محكمة بريطانية حكمت بالسجن ثمانية أشهر على شرطى أدين فى ارتكابه «جريمة» دفع أحد المتظاهرين!
• القضية الثانية تتمثل فى أننا لا نمارس الانتقاء فى المقارنات فحسب، ولكننا أيضا نقارن دائما بالأسوأ، ناسين أن بلدا بأهمية مصر ورصيدها التاريخى يستحق أن يقارن بما هو جدير به ويتطلع إليه. فى حين أننى أحذر من النهج الذى يوصل إلى الرأى العام ــ رسالة تدعو الناس بأن يحمدوا الله على ما هم فيه، لأن الآخرين لقوا مصيرا اسوأ وأتعس. وهو منطق قد يكون مفهوما فى حالة التماثل فى الظروف الاجتماعية والتاريخية، أما حين تختلف تلك الظروف اختلافا بينا فإن المقارنة فى هذه الحالة لا تخلو من افتعال وتغليط. أخص بالذكر هنا ظاهرة تكرار المقارنة بين مصر ودول أخرى مثل سوريا والعراق وليبيا. فمصر لا تعرف الصراع القبلى أو المذهبى بين الشيعة والسنة، وحتى العنف فيها بلا تاريخ، لأن المزاج المجتمعى مختلف فضلا عن أن الشعب غير مسلح أصلا، وكل العنف الذى ظهر على سطح المجتمع المصرى أخيرا يشكل استثناء ثم إن له سقفه وحدوده التى لا يتجاوزها. وما يجرى فى سيناء له خصوصيته المتعلقة بطبيعة المكان، وتركيبة المشاركين فى العنف الحاصل هناك، سواء تعلق الأمر بالجهات التى قدموا منها أو الجنسيات التى ينتمون إليها.
لست أدعى أن مصر محصنة ضد المصير الذى انتهت إليه أقطار أخرى التى يشار إليها. لكننى أكرر أن النموذج المصرى مختلف، سواء فى تركيبته الاجتماعية وخلفيته الثقافية، أو فى خبرته وتجربته مع العنف الذى لم يبلغ يوما ما ما بلغه فى تلك الدول الأخرى، وإذا كان لنا أن نعتبر من المآلات التى يجرى التحذير منها فإن ذلك يكون بانتهاج سياسات مغايرة تجنبنا الوصول إلى ما وصل إليه غيرنا. وهنا تبرز أهمية استدعاء النماذج الأفضل لتجنيب مصر النماذج الأسوأ.
إن الاكتفاء فى مصر بالتحذير من مآلات سوريا والعراق وليبيا وغيرها، هو دعوة للرضا بما هو حاصل. وتلك رسالة لا تخلو من خطورة. ذلك أننا إذا لم نغير من سياساتنا بحيث تتمثل النماذج الأفضل بما حققته على أصعدة الحريات العامة واحترام حقوق الإنسان، فلا ندرى إلى أين ستقودنا السياسات القائمة. ثم إن التغيير المنشود إلى الأفضل وحده هو الذى سيضمن لنا ألا ننتهى إلى ما انتهى إليه الذى نحذر منه. بالتالى فإن السؤال الأهم الذى ينبغى أن ننشغل بالإجابة عنه هو: ما هى الحصانات التى تتوافر لنا لكى لا تصبح مصر غير سوريا والعراق وليبيا؟