فهمي هويدي
رغم ضراوة الحرب التى أُعلنت على الربيع العربى والانتكاسات التى لاحقته على مدار العام، فإننا نودعه ونحن مطمئنون إلى أن جذوة الربيع لم تنطفئ، بدليل أن رايته لاتزال مرفوعة فى تونس.
(1)
حين يحلف الرئيس التونسى المنتخب باجى قايد السبسى اليمين الدستورية أمام البرلمان اليوم فسوف يستقبل كثيرون الخبر باعتباره إعلانا عن نهاية الثورة وطى صفحة الربيع العربى هناك. وربما خطر لبعضهم أن تونس بصدد العودة إلى حكم الدستوريين الذى أسقطته الثورة فى عام 2011. وليس ذلك مجرد تخمين أو استنتاج لأن تلك رسالة جرى بثها وتعميمها على الكافة منذ فاز حزب «نداء تونس» بأغلبية الأصوات فى الانتخابات التشريعية التى جرت فى شهر أكتوبر الماضى. وهو ما أنعش رعاة الثورة المضادة، ورفع معنويات أركانها وعناصرها فى مختلف أنحاء العالم العربى، إلا أن تلك الرسالة عبرت عما تمناه هؤلاء بأكثر مما عبرت عن القراءة الصحيحة لخرائط الواقع التونسى وحقيقة المتغيرات التى طرأت عليه بعد الثورة.
ما تمناه هؤلاء لم يكن كله وهما، لأنه استند إلى مسوغات لا تخلو من صحة. فالرئيس التونسى الجديد (السبسى) قادم من حقبة الرئيسين بورقيبة وبن على التى انقلبت عليها الثورة. وشرعيته مستمدة من تاريخ ما بعد الاستقلال (عام 1956) وأغلب الذين صوتوا له وماكينته الحزبية والإعلامية من عناصر الدستوريين والتجمعيين وهما حزبا الرئيسين سابقى الذكر، وقد هزم الرجل فى الانتخابات الرئاسية منافسه الدكتور المنصف المرزوقى الذى ينتسب إلى شرعية الثورة. صحيح أيضا أن حزب نداء تونس أزاح حركة النهضة المنسوبة إلى الإسلام السياسى من رأس قائمة القوى الممثلة فى البرلمان. كما أن ممثلى حزب النداء الذين وصل عددهم إلى 90 نائبا أغلبهم من الدستوريين (60 نائبا) فى حين أن الباقين يتوزعون بين اليساريين وغير المصنفين. إلا أن تقييم المشهد التونسى بناء على تلك المعلومات يظل قاصرا، لأنه يعنى الاكتفاء بالنظر إلى المشهد من زاوية واحدة وتجاهل زواياه الأخرى.
(2)
حين تجاوزت تونس الفترة الانتقالية وعبرتها بأمان، فإن ذلك كان أهم إنجاز سمح باستمرار الثورة وضمن للربيع العربى أجواءه العطرة. إذ خلال تلك الفترة حدث أمران مهمان للغاية، الأول أن المجتمع حضر فى المشهد السياسى من خلال مؤسساته الفاعلة التى أصبحت شريكة فى القرارات السياسية وقادرة على منازلة السلطة وتحديها، الأمر الثانى أن الصراع والتجاذب ظل مدنيا طول الوقت، فى حين ظلت القوات المسلحة خارج المشهد وليست طرفا فيه.
حين تم اغتيال اثنين من قادة المعارضة (شكرى بلعيد ومحمد البراهمى) فإن ذلك أغضب الشارع التونسى وأدى إلى إسقاط حكومتين متتاليتين وانتهى بخروج حركة النهضة من السلطة وتشكيل حكومة تكنوقراط من خارج الأحزاب. وحين هاجم نفر من الإرهابيين المسلحين مخيما للجنود فى جبل الشعانبى فى محافظة القصرين المحاذية للحدود الجزائرية، وأدى ذلك إلى قتل 15 عسكريا من التونسيين فإن ذلك أحدث صدمة لدى الرأى العام، لم تعالجها الحكومة بتصريحات وإجراءات تراوحت بين إدانة الإرهاب وتشديد الحملة على عناصره وإلقاء القبض على أعداد من المشتبهين، وإنما طرحت مسألة المسئولية الأدبية والسياسية الأمر الذى أدى إلى استقالة قائد الجيش اللواء محمد صالح الحامدى من منصبه، رغم انه كان قد أمضى سنة واحدة فى منصبه، وكان بوسعه أن يتذرع بأنه حديث العهب بالمنصب ولا يتحمل مسئولية التقصير فى حماية الجنود المرابطين على الحدود. إلا أن اسقالته كانت إعمالا لقيمة غائبة فرضت عليه أن يتحمل المسئولية عن مقتل 15 من جنود الجيش الذى يتولى قيادته، رغم أنه لم يكن مضطرا لذلك من الناحية القانونية.
خلال الفترة الانتقالية لم تكن السلطة هى الفاعل الوحيد فى الساحة السياسية، حتى الرئيس المرزوقى ذاته كان دوره هامشيا، ولكن الفاعل الأول ظل متمثلا فى القوى المدنية التى ظلت راعية للحوار وضابطة لحركة الشارع. وقد تمثلت فى الرباعى المتمثل فى اتحاد الشغل واتحاد رجال الأعمال وهيئة المحامين ورابطة حقوق الإنسان. وظل التوافق بين تلك القوى الأربع مصدرا للكثير من القرارات التى اتخذت بل والقوانين التى صدرت وأهمها القانون الانتخابى.
فى هذا الصدد فإن الدور الذى لعبته حركة النهضة فى تحقيق التوافق الوطنى والحفاظ على السلم الأهلى كان له إسهامه الكبير فى إنجاح المرحلة الانتقالية. إذ رغم تمتعها بالأغلبية مع «الترويكا» فى الجمعية التأسيسية، الأمر الذى كان يمكنها من التحكم فى توجيه دفة الفعل السياسى بما يكرس نفوذها ويخدم مصالحها. إلا أنها مارست طول الوقت مرونة مشهودة أعطت الأولوية للوفاق الوطنى وحماية الديمقراطية، ومن ثم الحفاظ على مسيرة الثورة.
الإنجاز الكبير الذى تحقق خلال المرحلة الانتقالية تمثلت فى المصادقة على الدستور الجديد الذى وافقت عليه أغلب القوى السياسية فى الجمعية التأسيسية وخارجها، وتكمن أهمية ذلك الدستور فى أنه ضمن أبرز الحقوق والحريات وكرس الفصل بين السلطات وحصن المجتمع ضد تغول السلطة وطغيانها.
(3)
ما لا ينتبه إليه كثيرون أن الدستور الجديد أضعف سلطة رئيس الدولة، فى حين قوى من الحكومة، وكما قال لى أحد الخبراء الذين شاركوا فى وضعه فإن المقارنة بين نفوذ كل منها تشير إلى أن الرئيس أصبح يملك 20٪ من السلطات فى حين تستحوذ الحكومة على 80٪ منها، ذلك أن الرئيس طبقا للدستور لا يستطيع أن يتخذ قرارا دون استشارة رئيس الحكومة. بل إن المادة 77 منه حصرت اختصاصات الرئيس فى «ضبط السياسات العامة فى مجالات الدفاع والعلاقات الخارجية والأمن القومى المتعلق بحماية الدولة من التهديدات الداخلية والخارجية، لكنها نصت على أن ذلك يتم «بعد استشارة رئيس الحكومة». وسلطات الرئىس فى التعيين تشمل مفتى الجمهورية وموظفى رئاسة الجمهورية فقط. أما التعيينات المتعلقة بالوظائف العليا العسكرية والدبلوماسية فإنها تتم بعد استشارة رئيس الحكومة. أما تعيين محافظ البنك المركزى فإنه يتم باقتراح رئيس الحكومة وبعد مصادقة الأغلبية المطلقة لمجلس النواب (المادة 78) ــ ولرئيس الجمهورية أن يعلن الطوارئ فى حالة الخطر الداهم، لكن ذلك مشروط باستشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب وإخطار رئيس المحكمة الدستورية (المادة 80)
فى كل الأحوال فإن رئيس الحكومة يظل شريكا فى ضبط السياسة العامة للدولة (المادة 91) ويده مطلقة بعد ذلك فى تشكيل الوزارة وإنشاء الوزارات، إلا أنه مطالب بالتشاور مع رئيس الجمهورية فقط بالنسبة لوزارتى الخارجية والدفاع (المادة 89) فى حين أن الرئيس لا علاقة له بأية تعيينات أخرى فى الدولة، بما فى ذلك إنشاء الوزارات أو إلغاؤها.
توسيع صلاحيات رئيس الحكومة لا يعنى تركيز السلطة التنفيذية فى يديه. لأن الدستور خصص بابه السادس لإنشاء مجموعة من الهيئات المستقلة التى ينتخب مجلس النواب أعضاءها. ولا سلطان عليها لرئيس الدولة أو رئيس الحكومة. واحدة لإجراء الانتخابات والاستفتاءات والثانية لضمان حرية التعبير والإعلام والثالثة للدفاع عن حقوق الإنسان، والرابعة للتنمية المستدامة، أما الخامسة فهى مختصة بمكافحة الفساد. (المواد من 125 إلى 130).
(4)
أهم ما فى الدستور أنه حصن المجتمع من تغول السلطة، وأشركه فى إدارة البلد، بحيث أصبح الجميع شركاء فى حمل المسئولية، الأمر الذى طوى صفحة الزعيم الأوحد والحزب الواحد والإدارة المتسلطة الممسكة بكل الخيوط. وما كان لكل ذلك أن يحدث لولا رياح الربيع العربى التى رفعت صوت المجتمع عاليا وأشهرت رغبته فى التغيير والإصلاح دفاعا عن مصيره.
كان مفهوما فى ظل هذه الظروف المستجدة أن تسفر الانتخابات التشريعية عن تشكيل مجلس للنواب ضم أبرز القوى السياسية الفاعلة بمختلف اتجاهاتها، ويمكن اعتباره أقوى مجلس تشريعى فى تاريخ تونس، وربما فى العالم العربى المعاصر، ولم يكن التنوع فيه مقصورا على تعدد القوى السياسية فحسب، وإنما شمل التخصصات أيضا. إذ ذكرت إحدى الدراسات أنه ضم 36 محاميا و30 جامعيا و35 أستاذا فى التعليم الثانونى و26 من العمال و27 من رجال الأعمال و16مهندسا و11 طبيبا و12 موظفا حكوميا...إلخ.
هذا المعمار الجديد فى تونس وفى العالم العربى بأسره. وضع الأساس لجمهورية ديمقراطية حقيقية تكفل سلطة المجتمع وتحمى كرامة المواطن فى سياق حفظها للحقوق والحريات، وتقبل بالتداول السلمى للسلطة. إن شئت فقل إن ذلك المعمار يؤسس للاستثناء التونسى ويحقق للتوانسة ما فشلت ثورات أخرى فى تحقيقه فى العالم العربى.
لو قال قائل إننى فصلت فى عرض النصف الملآن من الكوب لما جانبه الصواب. وقد دفعنى إلى ذلك أننى لاحظت تسابق بعض الأبواق الإعلامية وأنظمة الثورة المضادة على اعتبار أن ما جرى فى تونس نهاية للربيع العربى، ثم إننى دهشت للخفة التى اتسمت بها قراءة المشهد وحصره فى حدود التهليل لتراجع حظوظ حركة النهضة فى مجلس النواب، بحيث أصبحت تحتل المرتبة الثانية وليست الأولى فى عدد الأعضاء، ناسين أن ذلك التراجع يبقى على النهضة كبديل مطروح أمام الشعب التونسى فى أى انتخابات قادمة.
أدرى أن ثمة أخطاء وقعت فيها حكومتا النهضة فى المرحلة الانتقالية، وأن خطر الإرهاب لايزال يهدد تونس، وأن الأزمة الاقتصادية تمسك بخناق البلد إلى حد مؤرق. وأفهم أن ثمة إحباطا فى أوساط الشباب الذين لم تحقق لهم الثورة طموحاتهم. ولا أستبعد أن يحاول الدستوريون إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء، كما أننى أسمع الكثير عن ضغوط المال الخليجى الذى صار نشطا فى مجال الحرب على التاريخ وتشجيع الثورة المضادة. إلى غير ذلك مما قد يبدو ضمن مكونات النصف الفارغ من الكوب المسكون بأسباب القلق ومسوغاته. إلا أننى أذكر الجميع بأن عمر الثورة التونسية لم يتجاوز أربع سنوات فقط لا غير، وإننا لا نعرف فى التاريخ ثورة ولدت كاملة الأوصاف. بقدر ما نعرف أن ما أنجزته الثورة التونسية حتى الآن يعد نجاحا لم تبلغه ثورة أخرى فى المحيط العربى أو محيط الجوار. وفى كل الأحوال فإن أكثر ما همنى فى الأمر أن راية الربيع العربى لاتزال مرفوعة ترفرف فى فضاء تونس معلنة عن بزوغ الفجر الجديد، الذى صرنا نرى بأعيننا الحشود التى تحشد لحصاره وإجهاض أحلامه.