بقلم فهمي هويدي
أغلب الظن أنها محض مصادقة، أن تنشر الصحيفة العربية خبرا على ثلاثة أعمدة تحدث عن مواصلة الرئيس الفلسطينى إصدار قرارات تعزيز سيطرته على الساحة السياسية، وإلى جواره مباشرة عنوان آخر تحدث عن صدور قرار الحكومة الإسرائيلية بناء أكثر من مائتى وحدة سكنية فى مستوطنات معزولة بالضفة الغربية. وجدت فى الخبرين المتجاورين تعبيرا ناطقا عما يجرى فى فلسطين الآن. فالرئيس الفلسطينى مشغول بتوسيع سلطاته فى حين أن إسرائيل مشغولة بتوسيع مستوطناتها. الأول محوره شخصى ويحاول أن يبسط نفوذه، والثانية سلطة محتلة تسعى لتأمين مشروعها. فى الأول تبرز الذات وفى الثانية تتوارى الذات ويطرح الموضوع. ولا تقف المفارقة عند ذلك الحد. لأن الأول المشغول بذاته هو صاحب الأرض والثانى مغتصبها!
المفارقة الكاشفة أوردتها صحيفة «الحياة» اللندنية فى عدد الجمعة الماضية (١٥/٤) على الصفحة الرابعة، إذ استعرض التقرير الخاص بممارسات الرئيس محمود عباس الخطوات التى اتخذها الرجل خلال الآونة الأخيرة، التى استهدفت تصفية حساباته مع ناقديه وخصومه، إلى جانب تشديد قبضته وتوسيع نفوذه. كانت المناسبة أن أبومازن أصدر قرارا بوقف المخصصات المالية لجبهة التحرير الديمقراطية (٤٠ ألف شيكل شهريا تعادل نحو عشرة آلاف دولار) التى يفترض أنها من مخصصات فصائل منظمة التحرير التى تصرف من الصندوق الوطنى الفلسطينى. وكان قبل ذلك قد أوقف مخصصات الجبهة الشعبية (نحو ٥٠ ألف شيكل). وقبل القرارين انفرد بتشكيل المحكمة الدستورية العليا من تسعة أعضاء أغلبهم من عناصر حركة فتح الموالين له. الأمر الذى أدى إلى تحويلها إلى محكمة حزبية بالمخالفة لقانون إنشائها الذى صدر قبل عشر سنوات، ونص على ضرورة عدم انتماء أعضاء المحكمة لأى أحزاب.
هذه الإجراءات فسرها المراقبون السياسيون على أنها تستهدف إحكام قبضة أبومازن على الحياة السياسية، وإسكات أصوات معارضيه وتصفية حساباته مع نقاده. وأشير فى هذا الصدد إلى أشخاص مثل النائب محمد دحلان وإلى ياسر عبدربه الذى كان أحد أقرب معاونيه ورئيس وزرائه السابق سلام فياض.
فى مقابل الصورة التى ظهر فيها الرئيس الفلسطينى مشغولا بسلطاته وإقصاء أو إسكات ناقديه، فإن التقرير المقابل سلط الضوء على ما يجرى على أرض الوطن الذى بدا أبومازن منشغلا عنه. وخلاصته أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع موشيه يعالون طلبا من الإدارة المدنية الإسرائيلية فى الضفة الغربية الموافقة على خطط لبناء ٢٢٩ وحدة سكنية جديدة على الأقل فى عدة مستوطات بالضفة. حدث ذلك فى حين تتواصل بشكل حثيث جهود فصل القدس جغرافيا عن بقية الأراضى الفلسطينية، من خلال الجدار والحواجز والأحياء السكنية الجديدة. وهو ما يتم بشكل مواز مع بناء الكُنُس (أحدها فى ساحة البراق) واستمرار الحفريات تحت الأقصى وسحب الهويات من أبناء القدس. ذلك إلى جانب إقامة شرطة عربية مقدسية ترتبط ببلدية الاحتلال ولا صلة لها بالسلطة الفلسطينية.
لا تفاجئنا الممارسات الإسرائيلية. ذلك أن سجلها طوال نحو مائة عام حافل بمثلها وبما هو أكثر منها وأفدح. لكن أداء أبومازن يدهشنا، ذلك أنه فى عام ٢٠١٦ يبدو أضعف كثيرا مما كان عليه فى السابق. صحيح أن مواقفه كانت معروفة إزاء المقاومة والانتفاضة، فضلا عن أن تورطه فيما سمى بالتنسيق الأمنى الذى يظل وصمة تلاحقه إلى يوم الدين. أقول إننا كنا نعرف كل ذلك وظللنا غير مصدقين له. إلا أنه أطل علينا هذا العام بوجه ذهب به بعيدا فى الضعف والوهن. وهو ما لمسناه فى الحوار الذى بثه له التليفزيون الإسرائيلى، وأعلن فيه أن أجهزته الأمنية تفتش حقائب التلاميذ بحثا عن أى سلاح يمكن أن يستخدمه أحدهم لطعن الإسرائيليين، ودلل على جديته فى تأمين الإسرائيليين بقوله إن أجهزته الأمنية صادرت ٧٠ سكينا من حقائب التلايمذ فى إحدى المدارس. وكان الرجل فى السابق قد استقوى فى بعض خطاباته، وعبر عن موقف متشدد من الناحية اللغوية على الأقل. إذ قال إنه لا عودة للمفاوضات إلا بعد توافر عدة شروط، من بينها إطلاق الدفعة الأخيرة من الأسرى الذين اتفق على إخراجم فى وقت سابق، إضافة إلى وقف الاستيطان ووضع جدول من جانب الدولة الراعية لتحقيق الانجاز المنشود. هذه الشروط نسيها أبومازن كلها حتى بدا وكأنه نسيها تماما، وذكر فى الحوار التليفزيونى أن بوسعه حل كل الخلافات مع إسرائيل فى جلسة لقاء واحدة تجمعه مع رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو. لذلك كانت خلاصة انطباعنا عن اللقاء أن الرجل لم يعد لديه ما يقوله، وإنه أصبح عاجزا حتى عن التشدد اللغوى، وأصبح يراهن فقط على لقاء تمناه مع نتنياهو، وهو ما يدعونا إلى التساؤل: هل يعد ذلك تعبيرا عن عجز الرجل وحده أم أنه عكس العجز والوهن العربيين، أم أن العاملين كانا وراء الصورة المحزنة التى ظهر بها؟