من الجنون أن يتم إنقاذ اليمن بتدميره، ومن العار أن يشارك بعض العرب فى ذلك. فى حين يقف البعض الآخر بين متفرجين ومهللين.
(١)
حين قلت فيما نشر لى فى وقت مبكر (يوم ٣١ مارس الماضى) تحت عنوان «رفع الالتباس» ان «حرب الضرورة» عالجت وضعا سيئا بما هو أنكى وأسوأ. ما خطر لى أن يصل الأمر إلى حد تدمير البلد وترويع وتشريد شعبه وإعادته إلى الوراء مائة عام على الأقل. ما تخيلت أن نعالج أزمة بكارثة. وأن يفضى صد غارة الحوثيين إلى معاقبة ٢٥ مليون يمنى وتحويل حياتهم إلى جحيم. إزاء ذلك فإن مطلب وقف الغارات فى أسرع وقت وبأى ثمن أصبح قضية الساعة وواجب الوقت. ذلك أن استمرارها لن يجلب انتصارا بقدر ما أنه سوف يشيع المزيد من العذاب والخراب، ليس ذلك فحسب وإنما سيفتح الأبواب واسعة لتداعيات أخرى سيكون «المنتصرون» بين ضحاياها.
فى مقالة ٣١ مارس ذاتها أشرت إلى أربعة أطراف صنعت الأزمة فى اليمن. وكان تدبير وتآمر الرئيس السابق على عبدالله صالح هو الطرف الأول والأخطر. الحوثيون الذين تحالفوا معه وأساءوا الحساب والتقدير هم الطرف الثانى، أما الطرف الثالث فقد كانت إيران التى تورطت فى مساندة الحوثيين تحت إغراء طموحات التمدد فى الفراغ العربى، الطرف الرابع كان الرئيس عبدربه هادى منصور الذى فشل فى إدارة المرحلة الانتقالية بضعفه وتردده، لدرجة أنه قبل أن يحكم بلدا ولاء الجيش فيه لسلفه وخصمه اللدود.
هذا التقدير صار تاريخا الآن، ذلك ان الخرائط تغيرت نسبيا خلال الأسابيع الخمسة التالية. إذ صرنا فى أوائل شهر مايو أمام وضع جديد تشكل فى ضوء استمرار غارات «التحالف» الذى قادته المملكة العربية السعودية، ذلك ان القصف استهدف جميع أنحاء اليمن، لأن ألوية الجيش الموالية لعلى عبدالله صالح والتى تضامنت مع الحوثيين موزعة على مختلف المحافظات، الأمر الذى أدى إلى توسيع نطاق القصف بحيث لم يصب معسكرات الجيش فقط وإنما أشاع الترويع بين الناس بقدر ما أصاب العمران بالخراب. وهو ما أحدث تحولا فى الرأى العام الذى بدا واستمر ساخطا على الحوثيين وزعيمهم، وانتهى ساخطا على القصف السعودى. وذلك تطور مهم ينبغى أن يوضع فى الحسبان فى تقدير الموقف الراهن.
صحيح أن الحوثيين ليس مرحبا بهم، ليس فقط لأسباب طائفية باعتبارهم أقرب إلى الشيعة لاشك فى أن مناطق الجنوب بوجه أخص شافعية ينتمون إلى أهل السنة، إلا أن ممارساتهم وجرائمهم أزعجت كثيرين. من نهبهم للبنوك إلى استيلائهم على المدارس وتحويلها إلى مخازن للسلاح أو معتقلات وسجون إلى تعمدهم تفجير بيوت خصومهم واختطاف معارضيهم، إلى جانب انتشار قناصتهم فوق البيوت وإطلاقهم النار بصورة عشوائية على الأهالى. لكن أصداء الغارات والدمار والترويع الذى أحدثته ظلت أقوى وأعمق أثرا. وهو ما أحدث التباسا لدى البعض ممن باتوا يتساءلون هل المستهدف هم الحوثيون فقط أم أيضا اليمن بقدراته وعافيته؟. وفيما فهمت من بعض الخبراء المتابعين فى الداخل فإن شدة وكثافة الغارات أحدثت نوعا من إعادة الاصطفاف لمواجهة ما سمى بـ«العدوان السعودى». وهو ما استغله الحوثيون وحاولوا توظيفه لصالحهم رغم تراجع شعبية زعيمهم.
(٢)
تصدمنا التقارير التى خرجت من اليمن أو صدرت عن محنته فى الآونة الأخيرة. ذلك أنها ترسم صورة محزنة لما آل إليه حال البلد الأكثر ثراء فى التاريخ، وكيف انه فى حاضره أصبح الأكثر بؤسا وتعاسة. إذ عندما تدمر مطاراته الخمسة وتعطل موانيه أو تحاصر، فى حين أنه يعتمد فى ٩٠٪ من غذائه على الاستيراد من الخارج فضلا عن أن معاناته تقليدية من أزمة شح المياه، فإن ذلك يصور مدى معاناة الناس فيه، خصوصا إذا ضربت محطاته الكهربائية وأصبح ٩٠٪ من اليمنيين بلا كهرباء، وحين يقضى المواطن عدة أيام نائما أمام محطة البنزين لكى يحصل على بعض ما يحتاجه منه. وهو ما يؤدى إلى توقف المركبات وشلل المولدات، وإلى إصابة الحياة بالتوقف، وتكون النتيجة أن الناس يعيشون على ما قد يتوافر لهم من مخزون الأرز والطحين. ولا يستطيعون الخروج من بيوتهم لتدبير احتياجاتهم بسبب قناصة الحوثيين، ولا يستطيعون مغادرة البلاد بسبب توقف المطارات والموانى. وهو وضع أدى إلى «غزونة» اليمن كما ذكر بعض المدونين، بمعنى أنها أصبحت شبيهة بمأساة غزة التى تعانى من التدمير والحصار الذى يراد به خنق الحياة فيها وإماتتها.
صحيفة نيويورك تايمز نشرت تقريرا فى ٣٠ أبريل الماضى كتبه كريم فهيم اعتبر أن اليمن ضحية الصراع بين إيران والسعودية، وان صنعاء وتعز وعدن تحملت نصيبا أوفر من تجليات ذلك الصراع، الذى أدى إلى مقتل أكثر من ألف يمنى وإصابة أكثر من خمسة آلاف بجراح ونزوح وتشرد نحو ٣٠٠ ألف آخرين. وقد اشتد ذلك الصراع خلال الأسابيع الأخيرة لان كل طرف يريد أن يحسن موقفه على الأرض قبل الدخول فى أى مفاوضات لوقف القتال وإعادة السلام إلى اليمن.
منظمة الصحة العالمية حذرت من تفاقم الأوضاع الصحية، ونقص الطواقم الطبية. إذ فضلا عن إشارتها إلى أعداد القتلى والمصابين والنازحين، فإنها حذرت من قصف بعض المستشفيات ونقص الأدوية وتدهور أوضاع الطرق الأمر الذى يجعل من المتعذر الوصول إلى المرضى والمصابين. كما حذرت من انتشار الأمراض المعدية بسبب تراكم القمامة...إلخ.
من ناحية أخرى أصدرت منظمة «هيومان رايتس ووتش» تقريرا أخيرا (فى ٣/٥) ذكر أن طائرات التحالف استخدمت فى قصف مواقع الحوثيين ذخائر عنقودية محظورة دوليا. وهى تشكل خطرا بعيد المدى على المدنيين. وذلك بموجب اتفاقية اعتمدها ١١٦ بلدا عام ٢٠٠٨، ليس بينها السعودية واليمن والولايات المتحدة. وذكر البيان أن أدلة استخدام الذخائر العنقودية توافرت لدى المنظمة فى منتصف شهر أبريل الماضى، وان خبراءها جمعوا من الأدلة والقرائن ما أكد لديها صحة وقائع القصف الذى استهدف بعض قرى الحوثيين فى محافظة صعدة.
(٣)
قلت ان وقف الغارات فى أسرع وقت وبأى ثمن هو المطلب الملح الآن، أولا لوقف تفاقم الكارثة الإنسانية التى يزداد ضحاياها يوما بعد يوم (آخر احصاء للقتلى ذكر ان عددهم وصل إلى ألف ومائتين وخمسين شخصا).
وثانيا لترميم والحفاظ على الأواصر السعودية اليمنية. ثالثا للإسراع بإعادة إعمار ما تم هدمه وتخريبه خصوصا فى البنية الأساسية لليمن. ورابعا لوقف تمزق اليمن وانفراط عقده بعد إغراق القبائل بالسلاح الخفيف والثقيل ونشوء مجموعات المقاومة الشعبية فى مختلف المناطق مع الحرص على تدريبها وتحملها عبء مقاتلة الحوثيين وجيش الرئيس السابق. وهو ما يثير التساؤل حول مصير تلك «المقاومات» بعد انتهاء القتال علما بأن انفصال الجنوب بات احتمالا قويا الان، والتفكير فى المستقبل يستدعى اسئلة كثيرة ليس فقط على أوضاع اليمن الداخلية وإنما على أصداء الأحداث فى محيطها أيضا.
إذا كان التفكير فى التعامل مع أى أزمة يبدأ بالاتفاق على مالا ينبغى عمله لينتهى بالتوصل إلى ما يجب عمله، فأزعم أن وقف القتال هو المحظور الذى ينبغى الاتفاق عليه، أما ما بقى بعد ذلك فهو بحاجة إلى تشاور وتوافق وربما إلى وساطات. وتتحمل المملكة العربية السعودية مسئولية خاصة فى هذا الصدد، لانها هى التى تقود التحالف الذى يشن الغارات الآن، ولانها المتضرر الأكبر من الانقلاب الذى قام به الحوثيون فى اليمن.
وتحضرنى فى هذا الصدد عبارة «تجرع السم» التى بمقتضاها يتحلى الطرف المشارك بشجاعة تمكنه من القبول بقدر من التنازل والضرر لكى يتجنب ضررا أكبر وأفدح. من هذه الزاوية فلست واثقا من حكمة وصواب الإصرار على دعوة الفرقاء اليمنيين بمن فيهم الحوثيون للحوار فى الرياض التى تشن الغارات على الطرف الآخر. وهو ما قد يكون مفهوما فى حالة انتصار «التحالف» وتسليم الطرف الآخر بالهزيمة، وهو ما لم يحدث. ولأن الخلاف فى هذه الحالة حول رمزية المكان، فإن جرعة السم المقترحة فى هذه الحالة لن تكون كبيرة إذا عقد الاجتماع فى سلطنة عمان أو فى الكويت. أو حتى فى الإمارات.
على صعيد آخر، فاننى لا استطيع أن أخفى دهشة واستنكارا لقول نائب وزير الخارجية الإيرانى حسين أمير عبداللهيان أن طهران «لن تسمح بتعريض أمنها المشترك لمغامرات عسكرية». وهو ما نقلته على لسانه وكالة «تسنيم» الإيرانية فى مقال نشر بطهران يوم السبت ٢/٥. الأمر الذى يفهم منه ان إيران باتت تتحدث الآن عن «مصالح أمنية» لها فى اليمن. وهذا ــ إذا صح ــ يصبح شيئا جديدا ولافتا للانتباه. مع ذلك فإن مخاطبة إيران فى حل الأزمة. تنفيذا للقرار الذى اتخذه مجلس الأمن فى الموضوع، لابد أن يكون لها تأثيرها على موقف الحوثيين. إذ ما عاد سرا انهم يستشيرون طهران فى مثل هذه التطورات المفصلية على الأقل.
أدرى أن هناك تفاصيل كثيرة فى الموضوع، إلا أننى أزعم أنها تتوزع على ثلاث دوائر، أولاها وقف الغارات وثانيتها ترتيب إدارة البيت اليمنى لأجل تثبيت الشرعية والتحرك السريع باتجاه إعمار ما تم تدميره. وهى المسئولية التى يتعين أن تسهم فيها الدول الخليجية قبل أى طرف آخر. وليت الهمة التى ظهرت فى الدعوة إلى الاحتشاد العسكرى واستخدام القوة التى أدت إلى تدمير اليمن تتكرر فى التنادى لإعمار البلاد وطى صفحة آلامه وأحزانه. وفى هذا الصدد فإن التساؤل يصبح واردا عن دور المجالس والمؤسسات التنموية العربية بل وعن مسئولية «القمم» خليجية كانت أم عربية.
(٤)
إننا إذا وسعنا من زاوية النظر، ورفعنا البصر مؤقتا عما حل باليمن من دمار، فسوف تستوقفنا ثلاثة أمور.
الأول أن إعصار الدمار ضرب بقوة عدة أقطار عربية لاحت فيها بوادر التغيير وأحلامه. من ليبيا إلى سوريا مرورا بالعراق. وسوف نلحظ أن سيناريو الانتحار واحد فى تلك الأقطار. من قتل واقتتال وتشريد وقصف للعمران والبنى التحتية، بما يشغل شعوب تلك الأقطار بجراحها وأحزانها لعدة عقود قادمة، وبما يدمى الجغرافيا ويخرجها من التاريخ وهو ما يثير التساؤل عما إذا كانت تلك مجرد مصادفة أم لا.
الأمر الثانى محير ومحزن، ذلك انه فى ظل ذلك الاعصار المدمر يبدو العالم العربى كسفينة مثقوبة وتائهة، موشكة على الغرق، فى حين لا تجد ربانا يقودها أو يعالج شقوقها ويضمد جراحها. وأصبحت غاية مرادها ومناها ان يلقى إليها الآخرون بطوق النجاة لانقاذها من الغرق وايصالها إلى بر السلامة.
الأمر الثالث انه فى حين تتسابق أقطار العالم العربى على الانتحار، فإن إسرائيل تواصل الازدهار والتمدد، وتتفرغ لتحقيق أحلامها ليس فقط فى ابتلاع فلسطين وتهويدها وقمع الفلسطينيين وإذلالهم، وإنما أيضا فى اختراق العالم العربى وتوظيف قدراته لبسط هيمنتها على المنطقة وإشغالها بالصراع المذهبى الذى يشعل فيها الحرائق لعدة عقود قادمة على الأقل.
المدهش أنه فى حين يحدث ذلك، فإنه يتم تخديرنا واستغفالنا طول الوقت عبر محاولة اقناعنا بأن الأمن العربى مهدد فقط عند باب المندب فى الركن القصى من الجزيرة العربية. أما التغول والتوحش الإسرائيليين فإنه شأن أقل أهمية يمكن احتماله ولا يستحق ان نشغل أنفسنا به.