توقيت القاهرة المحلي 12:59:54 آخر تحديث
  مصر اليوم -

نبلاء اليسار

  مصر اليوم -

نبلاء اليسار

فهمي هويدي

بوفاة الأستاذ أحمد سيف الإسلام ـ الناشط الحقوقى ـ يختفى أحد اليساريين المحترمين، الذين يمثلون كتيبة مهددة بالانقراض فى الساحة السياسية. فالرجل كان مناضلا استمد نبله من انتمائه الإنسانى ووظف يساريته لأجل الدفاع عن الحق والعدل ومواجهة الظلم السياسى والاجتماعى.

ما كان بيننا لم يتجاوز الاتصالات الهاتفية من جانبى، حيث كنت أستوضحه فى بعض المعلومات القانونية المتعلقة بالقضايا المعروضة. لكننى تابعت مواقفه وحواراته والمؤتمرات التى كان يعقدها فى نقابة الصحفيين دفاعا عن المعتقلين، الذين شاءت المقادير أن يكون ابنه وابنته بينهم. وفى حديثه ولقاءاته لم يكن الرجل يتكلم باعتباره يساريا له حساباته وتطلعاته وطموحاته الخاصة، ولكنه كان طول الوقت ذلك المناضل الذى يرفض الظلم ويقاومه بكل أشكاله بجرأة مدهشة، جعلته لا يبالى بالثمن الذى دفعه من حريته حين أمضى خمس سنوات من عمره فى السجن، عانى فيها الكثير وتعلم منها الكثير. وهو ما ورَّثه لأسرته التى تحولت إلى حالة نضالية جديرة بالتقدير والإعجاب.

بوقوفه إلى جانب المظلومين ودفاعه عن إنسانيتهم وحقوقهم بصرف النظر عن اختلافاتهم الفكرية، فى زمن الاستقطاب المروع، فإنه بدا قريبا من الجميع ومختصرا للمسافات التى تفصل بينه وبين أى آخر مختلف معه. ذلك أنه بإنسانيته استحضر المشترك بينه وبين كل آخر. ومن ثم فإنه بدا نموذجا استثنائيا وفريدا بين يساريى هذا الزمان، حتى أزعم أنه صار بموقفه ذاك أبعد عن اليسار الاحترافى فى صورته الراهنة وأقرب إلى من عداهم (جنازته تشهد بذلك).

عند الحد الأدنى فالرجل ظل مخلصا لقيمه، فلا باع ولا ساوم ولا دخل فى صفقات أو تحالفات أو خصومات، كغيره ممن صار اليسار بالنسبة إليهم مشروعا سياسيا استثماريا جاهزا للميل مع كل ريح، وليس مشروعا فكريا له وجهه النضالى والإنسانى. ومن المفارقات أن الرجل الذى ظل يقود حملة الدفاع عن المظلومين والمعذبين أصبح حضوره فى الساحة السياسية أقوى بكثير من الذين يرفعون هذه الأيام رايات اليسار مدعين أنهم الممثل الشرعى الوحيد له.

إن شئت فقل إن الرجل ظل حاضرا بقوة فى قلب الواقع السياسى، فى حين أن رافعى الرايات ظل حضورهم مقصورا على الفضاء التليفزيونى والإعلامى. حتى أزعم أنه بالنموذج الذى قدمه كشف أزمة اليسار المصرى الذى تحول إلى كيان يعرف بغيابه ولا يرى له حضور إلا فى المهرجانات والمناسبات الاحتفالية.

الذين عرفوه فى وقت مبكر يذكرون له أنه كان طالبا نابها فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، كما أنه كان ناشطا سياسيا وزعيما طلابيا وخطيبا مفوها. وبسبب انغماسه فى السياسة فإنه أمضى نحو ثمانى سنوات فى الكلية (التحق بها فى عام 69 وتخرج منها عام 77). وقد اعتبر تخرجه بداية لتفرغه للعمل السياسى والنضالى، مع رفاقه الذين جذبهم التيار اليسارى. وهو ما انتهى باتهامه بالانخراط فيما سمى آنذاك بـ«التنظيم الشيوعى المسلح». الأمر الذى أدى إلى محاكمته فى أوائل الثمانينيات والحكم عليه بالسجن مدة خمس سنوات. وإذ أرادوا أن يعاقبوه بذلك فإن الفترة التى قضاها فى السجن صارت نقطة التحول الكبرى فى حياته. فقد التحق خلالها بكلية الحقوق وتخرج منها لكى يصبح فيما بعد محاميا نابها، ثم إنه تعرض لتعذيب شديد ملأه بالغضب الذى دفعه لأن يكرس حياته للدفاع عن ضحايا التعذيب. وكانت تلك هى الخلفية التى دفعته إلى تأسيسه مركز هشام مبارك للمساعدة القانونية. وكتبت له المقادير أن يلتحق بعد خروجه من السجن بمكتب للمحاماة لم يتعلم فيه أصول المهنة فحسب، ولكن لأن المكتب كان خاصا بأحد نبلاء اليسار فى زمانه، الأستاذ نبيل الهلالى، فإنه تعلم هناك أيضا أخلاقيات وقيم النبل السياسى الذى كان صاحب المكتب رمزا له.

فى مكتب المحاماة التحق الأستاذ أحمد سيف بكتيبة نبلاء اليسار الذين عرفتهم مصر خلال الأربعين سنة الأخيرة. الذين كان نبيل الهلالى على رأسهم، كما كان منهم الدكاترة والأساتذة اسماعيل صبرى عبدالله وعبدالعظيم أنيس وفؤاد مرسى وإبراهيم سعد الدين ومحمود العالم ومحمد سيد أحمد. وآخرون ربما لم يتح لى أن أتعرف عليهم. الشاهد أن هؤلاء رحلوا عن دنيانا واحدا تلو الآخر، الأمر الذى سوغ لى بأن أصفهم بأنهم كتيبة منقرضة. ولست أشك فى أن هؤلاء الراحلين لم يأخذوا النبل معهم، لأننى على ثقة من أن بين أهل اليسار قلة لا يزالون يرون فيه وجهه الإنسانى إلى جانب وجهه النضالى والتقدمى. بقدر ما أننى على ثقة من أن الواجهات الحالية التى ترفع رايات اليسار ليست أفضل تعبير عنه. وبقدر ما ينتابنا شعور الحزن لفقدان أركان كتيبة النبلاء الذين كان الأستاذ أحمد سيف أحدهم، فإن شعور الرثاء المختلط بالاستنكار والدهشة هو أول ما يتملكنا حين نطل على السرادق المنصوب باسم اليسار هذه الأيام خصوما بعدما تحول إلى حليف لليمين. وغدا ذلك «تقدميا»، لكن إلى الوراء.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

نبلاء اليسار نبلاء اليسار



GMT 07:12 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

سيد... والملّا... والخاتون

GMT 07:10 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

زيارة محمّد بن زايد للكويت.. حيث الزمن تغيّر

GMT 07:09 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

غلق مدرسة المستقبل

GMT 07:09 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

إنَّ الكِرَامَ قليلُ

GMT 07:08 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

ترمب الثاني... وقبائل الصحافة والفنّ

GMT 07:07 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

مع ترمب... هل العالم أكثر استقراراً؟

GMT 07:06 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

ترمب... ومآلات الشرق الأوسط

GMT 07:05 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

اللغة التى يفهمها ترامب

تارا عماد بإطلالات عصرية تلهم طويلات القامة العاشقات للموضة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 22:43 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

عمر خيرت يكشف عن لحظة فارقة في حياته
  مصر اليوم - عمر خيرت يكشف عن لحظة فارقة في حياته

GMT 09:44 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

جورج وأمل كلوني يحتفلان بذكرى زواجهما في أجواء رومانسية

GMT 12:02 2024 السبت ,07 أيلول / سبتمبر

نصائح وأفكار لإطلالات أنيقة ومتناسقة

GMT 20:58 2016 الجمعة ,28 تشرين الأول / أكتوبر

لجان البرلمان المصري تستعد لمناقشة أزمة سورية

GMT 23:21 2018 الأربعاء ,21 آذار/ مارس

تعرفي على خطوات للحفاظ على "لون الصبغة"

GMT 23:40 2018 الأحد ,04 آذار/ مارس

تعرف على سعر ومواصفات سكودا كودياك 2018

GMT 19:31 2018 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الشرطة تكشف تفاصيل تجريد أستاذ جامعي من ملابسه

GMT 18:47 2018 الثلاثاء ,30 كانون الثاني / يناير

شركة فيات كرايسلر تكشف عن تراجع ديونها بمقدار النصف
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon