الأخبار القادمة من اليمن تبعث على القلق والخوف. فعناوينها باتت تدور حول موضوع واحد تقريبا. هو الاحتشاد العسكرى لتحرير صنعاء من سيطرة الحوثيين. إذ بات الحديث متواترا عن وصول قوات يمنية إلى جانب قوات أخرى من السعودية وقطر والإمارات والكويت والسودان، البعض قدروا تلك القوات بين ثلاثة وعشرة آلاف جندى. ومع القوات معلومات كثيرة عن الدبابات والمدرعات وناقلات الجنود وطائرات اباتشى. ثمة معلومات أخرى تحدثت عن التمركز فى مأرب تمهيدا لحسم معركة صنعاء. ثم أخبار مزعجة عن بدء القصف الجوى لبعض مواقع الحوثيين فى العاصمة، وعن مغادرة السفير الإيرانى لها، استباقا للمعركة.
رغم أن المعارك لاتزال تدور فى ضواحى تعز، إلا أن الإعداد للهجوم على صنعاء، الذى تمهد له الغارات الجوية الآن، أصبح يستأثر بالعناوين والتقارير الصحفية. وهو أمر مفهوم ومبرر لأن استرداد صنعاء من الحوثيين سيكون بداية النهاية لغارتهم التى مكنتهم من الاستيلاء على المدينة قبل عام تقريبا (فى ٢١ سبتمبر ٢٠١٤).
لأن صنعاء هى رمز الانتصار، كما أنها شهادة الهزيمة والانكسار فإن الحوثيين وقوات صالح الموالية لهم حشدوا بدورهم حشودهم وتحسبوا للمعركة الفاصلة. وليس هناك شك فى أنهم خلال العام المنقضى أعدوا عدتهم لهذا اليوم، الأمر الذى يعنى أن المعركة على الأرض ستكون شرسة وضارية، وأن كل طرف سوف يعتبرها بالنسبة إليه معركة حياة أو موت.
لأن الأمر كذلك، وبغض النظر عن المنتصر والمهزوم فى المواجهة، فإن ضحية القتال فى كل الأحوال ستكون المدينة بسكانها البالغ عددهم مليونى نسمة. ومما خبرناه فى معارك عدن وتعز، فإن الحرب خلفت وشردت الآلاف، ودمرت كل ما طالته من العمران فضلا عن البنى التحتية. وقد تحدثت الأرقام حتى الآن عن ٤٥٠٠ قتيل إلى جانب ثلاثة ملايين مشرد، كما أشارت التقارير إلى انتشار حمى الضنك وتعطل العمل فى مختلف المرافق بما فى ذلك حرمان تلاميذ المدارس من الالتحاق بالعام الدراسى الجديد.
ذلك حدث ومعركة صنعاء الأرضية لم تبدأ بعد. الأمر الذى يصور لنا الكارثة الكبرى التى يمكن أن تحل بواحدة من أقدم مدن العالم إذا ما تحولت إلى ساحة للاقتتال بين الطرفين. علما بأن المدينة تعيش الآن حالة محزنة من البؤس، فهى ــ إلى جانب القصف المروع ــ محرومة من الكهرباء والنفط والماء والتموين وغير ذلك من المقومات الأساسية لاستمرار الحياة. ثم إنها أيضا بغير سلطة تديرها، الأمر الذى حولها إلى عاصمة لإحدى الدول الفاشلة.
ما عاد سرا أن القصف الجوى لم يحدث تغييرا ملموسا فى توازن القوى على الأرض، لذلك فإنه أحدث من الدمار وإسالة الدماء والترويع بأكثر مما أحدث من التحرير المنشود. ولم تتغير تلك الموازين إلا حين بدأ الهجوم البرى الذى أسهمت فيه القوات السعودية والإماراتية بدور فاعل إلى جانب المقاومة الشعبية، الأمر الذى كان له دوره المؤثر فى تحرير عدن، مع ذلك فإذا كان للهجوم البرى جدواه العسكرية إلا أن خسائره البشرية فادحة للغاية.
من ناحية ثانية فإننا إذا وضعنا فى الاعتبار أن اليمنيين المنخرطين فى صفوف الحوثيين وقوات صالح يحاربون على أرضهم التى هم أدرى بها، فى حين أن قوات التحالف أغلبها مستجلب من الخارج فذلك يعنى أن الطرف الأول سيكون فى مركز أقوى وإن المواجهة ستكون طويلة الأمد وخسائرها فى البشر والعمران ستكون باهظة للغاية.
لأن الجميع يدركون ذلك، ويعرفون أن الكل مهزوم فى معركة تحرير صنعاء، بحيث ان أى نصر عسكرى سيكون بلا طعم أو قيمة، فثمة جهد مواز يحاول الآن استباق المواجهة العسكرية والتوصل إلى حل سياسى قبل ان تقع الواقعة. وللأسف فإن ذلك الجهد دولى بأكثر منه عربى. إذ يباشره فى الرياض المبعوث الدولى والسفيران الأمريكى والبريطانى فى صنعاء، إلى جانب بعض الشخصيات اليمنية. وقد علمت أن الأطراف المتحاربة اتفقت على عقد اجتماع فى مسقط هذا الأسبوع (يوم ١٥ سبتمبر) لوقف إطلاق النار، إذا نجح سوف يعقبه اجتماع آخر للأطراف ذاتها فى الكويت لبحث الجانب السياسى من الأزمة.
إلى جانب ذلك فمن الواضح أنه لم يعد هناك أمل يرجى من الجامعة العربية التى أصبحت تتحكم فى قراراتها وبياناتها مراكز القوى العربية التى تؤيد الحسم العسكرى فى الوقت الراهن.
بقيت عندى ملاحظتان إحداهما استفهامية والثانية استنكارية. خلاصة الأولى ان اليمن ظلت بلدا منبوذا من جانب مجلس التعاون الخليجى الذى ظل يتمنع فى قبول عضويتها طوال السنوات التى خلت، وحين وقعت الغارة الحوثية تذكر الجميع أن أمن اليمن من أمنهم وسارعوا إلى إرسال قواتهم إلى هناك لتحريرها. وهو أمر محير «واكتشاف» يحتاج إلى تفسير. الملاحظة الاستنكارية تتمثل فى أن الدول العربية الكبرى تتحدث عن أهمية الحل السياسى للأزمة فى سوريا، رغم الفظائع والبشاعات التى مارسها النظام هناك، فى حين أن الدول ذاتها لم نر لها حماسا للحل السياسى فى اليمن، رغم تواضع مأساته بالمقارنة مما هو حاصل فى سوريا. وهو ما يمثل لغزا محيرا وباعثا على الدهشة والاستنكار.
إن إنقاذ صنعاء واليمن كله من جحيم الحرب بات بحاجة إلى معجزة. ويا ليتنا نردد مع اليمنيين دعاءهم: يا لطيفا لما نزل الطف بنا فيما نزل.