فهمي هويدي
أحيانا يلتبس الأمر على المرء فلا يعرف ما إذا كنا ضد الظلم أم لا، وما إذا كنا ضد القتل خارج القانون فقط أم أيضا ضد القتل الذى يتم باسم القانون؟. وهل نحن ضد القتل بقطع الرءوس فقط أم ضد أى قتل يتم خارج القانون. وهل ينصب استنكارنا على الجهة التى تمارس القتل. أم أن رأينا يختلف باختلاف ما إذا كان القاتل جماعة إرهابية أو سلطة حكومية مدنية كانت أم عسكرية؟.
هذه الأسئلة من وحى خليط الغضب والاشمئزاز الذى ينتابنا ونحن نقرأ أخبار الممارسات البشعة التى تقدم عليها جماعة داعش أو بوكوحرام، بعدما باتت تحتل مكانا بارزا فى وسائل الإعلام المصرية والعربية. صحيح ان تلك الأخبار توظف سياسيا، من حيث إنها تقدم خدمة جليلة للأنظمة الوحشية التى تمارس القتل بأساليب أخرى فى العالم العربى (سوريا والعراق مثلا)، إلا أن المشهد يستدعى فى الوقت ذاته قائمة الأسئلة سابقة الذكر.
إن بعض الأنظمة تشدد من حملتها على داعش مثلا لكى تقنع الرأى العام بأن ذلك النموذج يمثل البديل الذى ينتظرها إذا ما هى أصرت على التمرد والثورة على الاستبداد الذى تخضع له. وأغلب الظن أنها أرادت أن تقول لمواطنيها ان ما تمثله قد يكون سيئا حقا، لكن البديل الذى يلوح فى الأفق (داعش فى هذه الحالة) هو أسوأ وأضل سبيلا.
إننى لا أرى فرقا من الناحية الموضوعية بين من يقتل بريئا بقطع رأسه والتباهى بفعلته أمام كاميرات التليفزيون. وبين من يلقى برميلا مليئا بالمتفجرات على مجموعة من المعارضين. أو من يطلق صاروخا يبيد به أسرة أو مجموعة من الأسر فى مجمع سكنى، أو من يستخدم طائرة بغير طيار (درون) ولا يبالى بقتل عشرة مقابل اصطياد واحد فقط، أو من يحكم بالإعدام على عشرات أو مئات جراء تهم ملفقة أو بغير تهم على الإطلاق بعد تقديمهم إلى محاكمات صورية. فتلك كلها جرائم لا تختلف إلا فى طريقة إخراجها، وحسب اختلاف الفاعل فيها والبيئة السياسية والثقافية المحيطة بها.
إن الذين يسلطون الأضواء الإعلامية القوية على جرائم القتل التى ترتكبها داعش بحق المخالفين فى الأفكار أو الاعتقاد محقون فى تسجيل بشاعة الحدث، لكن أغلبهم يريد منا أن نكره وندين داعش وكل جماعات المعارضة التى تنسب نفسها إلى الإسلام فقط، الأمر الذى يعنى أنهم يريدون توظيف جرائمها سياسيا لأهداف محددة. ومن جانبى أرى أن كراهية داعش واجبة لا ريب. لكننا نريد أيضا أن نكره كل أشكال التعصب والظلم واستباحة الآخرين بما يهدر حقهم فى الحياة، فضلا عن الكرامة.
إن بعضنا يستنكر القتل ويستنفر ضد الظلم إذا ما مارسه من يكرهون، فى حين يجدون ألف تبرير وتبرير لتسويغ كل منهما إذا صدر عمن يحبون. وذلك موقف غير مبدئى وغير أخلاقى، ينطلق فى حقيقته من الانحياز للفاعل وليس للقيمة. فى الوقت ذاته فإننا كثيرا ما نستهجن القتل إذا ما مارسته جماعات فى حين نسوغه ونعبر عن تفهمنا له حين تمارسة الحكومات.
قبل حين دعيت إلى مؤتمر فى إحدى الدول الخليجية لمناقشة مكافحة الإرهاب. وحين سألت محدثى، الذى كان مديرا لإحدى الجامعات، عما إذا كان البحث سيتطرق إلى إرهاب الجماعات فقط أم أنه سيتصدى لإرهاب الأنظمة والحكومات أيضا، فإن صاحبنا سكت ثم قال كلاما غير مفهوم، انقطع بعده الخط ثم استبعد اسمى من قائمة المشاركين فى المؤتمر. وعلمت أن اسمى أدرج ضمن الممنوعين من دخول الدولة المشار إليها.
كأننا نفرق بين قتل يمارسه الجهلاء والمتخلفون، كما هو الحاصل فى حالة داعش، وقتل آخر يمارسه الوجهاء والمتأنقون من قبيل ذلك الذى تمارسه طائرات «درون» فى اليمن وأفغانستان. كما أننا نفرق بين قتل تقدم عليه مجموعة متطرفة مثل «أنصار الشريعة» وآخر يمارسه نظام بشار الأسد فى سوريا أو نورى المالكى فى العراق. الأمر الذى يحول الجريمة إلى وجهة نظر تستهجن من طرف «ويتفهم» البعض إذا صدرت من طرف آخر.
ليس بعيدا عن أذهاننا الجدل الذى أثير فى مصر بمناسبة ذكرى فض اعتصام رابعة العدوية والنهضة (فى 14 أغسطس عام 2013) الذى قتل فيه أكثر من ألف شخص حسب تقدير المصادر المستقلة، وهى المذبحة التى دافع عنها البعض ولم يروا فيها غضاضة، بدعوى أن القتلى كانوا مسلحين ويستحقون ما حل بهم، حتى إذا كان ذلك قد تم خارج العدالة والقانون.
إن لدينا مشكلة تتعلق باحترام حق الآخر المختلف فى الوجود والحياة. وللأسف فإن النخب فى مقدمة الذين يعانون منها، وأغلب الذين يظهرون فى وسائل الإعلام يجسدون تلك المشكلة بعدما أفقدهم الاستقطاب توازنهم حتى أنساهم مواعظهم السابقة عن القيم والمبادئ وقائمة حقوق الآخر. وقد كنا فى السابق نتباهى بأن القرآن سبق بالنص على تقرير حق الكرامة لكل بنى آدم، وان من قتل نفسا ــ هكذا بالمطلق ــ بغير حق فكأنما قتل الناس جميعا، ولكننا صرنا نستحى من التذكير بذلك. لأن الممارسات هزمت التعاليم وفضحتنا أمام الخلق.