بقلم فهمي هويدي
لم يتوقع أحد أن يستمر المستشار هشام جنينة فى منصبه رئيسا لجهاز المحاسبات. إذ بعد التشهير الذى تعرض له طوال الأشهر الماضية فإن العقلاء توقعوا ألا يجدد له، ولا يبقى فى مكتبه يوما واحدا بعد انتهاء مدته فى السادس من شهر سبتمبر المقبل. وفى حدود علمى فإنه لم يكن من مؤيدى هذا الرأى، وإنما توقع أن يصدر قرار بعزله فى أى وقت. ولست على علم بخليفات التعجيل بإقصاء الرجل، خصوصا أن حظر الشر فى الموضوع أسدل ستارا حول التحقيقات وما يجرى وراء الكواليس. بحيث لم يكن أمام المتابعين للقضية سوى تداول الشائعات. والاعتمادات على التأويلات والاستنتاجات فى محاولة الفهم والتفسير، فى هذا الاطار فإننى أسمح لنفسى بتسجيل ثلاثة هوامش على القرار هى:
< الأول أن ثمة فروقا مهمة فى ضمانات استقلال رؤساء الهيئات العامة وبينهم رئيس جهاز المحاسبات بين دستور عام ٢٠١٢ ونظيره الذى صدر فى عام ٢٠١٣. فالدستور الأول نص فى مادتيه ٢٠١ و٢٠٢ على أن الهيئات المستقلة مكلفة بنشر تقاريرها على الرأى العام. كما ان رؤساءها لا يعزلون إلا بموافقة أغلبية أعضاء البرلمان، أما دستور ٢٠١٣ فقد نص فى مادته ٢١٦ على أن تعيين رؤساء الهيئات المستقلة يتم بأغلبية أعضاء البرلمان، أما عزلهم فقد صار فى سلطة رئيس الجمهورية وفى الحالات المحددة بالقانون. الأمر الذى يعنى أن ضمانات استقلال رؤساء تلك الهيئات ومنها جهاز المحاسبات جرى إضعافها إلى حد كبير فى الدستور الأخير لصالح قدة السلطة التنفيذية. كما أنه لم ينص على وجوب نشر تقارير الهيئات على الرأى العام، الأمر الذى فتح الباب لحظر نشرها بناء على قرار النائب العام كما حدث.
< الهامش الثانى، أننا أخطأنا فى فهم المأخذ الأساسى على المستشار جنينة، فليس صحيحا أن تهمة الرجل محصورة فى حديثه عن أرقام الفساد فى أحد الحوارات الصحفية. ولا فى كونه أساء إلى سمعة مصر وشوه صورتها فى المحافل الأجنبية، كما ذكر تقرير لجنة تقصى الحقائق (هذا على افتراض أن السمعة ممتازة والصورة مرضية ومشرفة) لكن مشكلة الرجل الحقيقية أنه تصرف كقاض نزيه ورفض أن يشارك فى لعبة السلطة أو يكون عضوا فى ناديها. وهى العضوية التى لها ميزاتها التى لا تحصى لكن لها ثمنا أيضا. وبمقتضى ذلك الثمن فإن المسئول ينبغى أن يتصرف باعتباره معها دائما ظالمة كانت أو مظلومة.
وفى هذه الحالة فإن الولاء يقاس بمعيار الموالاة بصرف النظر عن علاقة ذلك بالدستور أو القانون. ولأنه قاض بالأساس فإنه لم ينتبه إلى ضريبة الانضمام إلى النادى، وظن أن التزامه بالقانون يكفيه ويؤمنه. ولهذا السبب فإن صاحبنا لم يتردد فى اقتحام الدوائر الحساسة التى غض غيره الطرف عنها فاستشرت وتغولت. وحين فعلها فإنه لم يدرك أنه وضع يده فى عش الزنابير كما يقال. وهو ما أدى إلى استنفار كل مكونات العش، خصوصا أن مكاسب المنتفعين فى تلك الدوائر هائلة بما يحفز أصحابها للقتال دونها وربما الاستشهاد أيضا. وإذا لاحظنا أن تلك الدوائر الحساسة تشمل مؤسسات ذات بأس وقوة، فلم يكن هناك حل للإشكال سوى التربص بالرجل والسعى للإطاحة به فى أى فرصة، وهذا ما حدث.
< الهامش الثالث يطرح فكرة الملاءمة فى التوقيت. ذلك أن القرار حتى إذا كان صائبا قد تكون له أصداؤه السلبية إذا صدر فى التوقيت الغلط. ينطبق ذلك على الحالة التى نحن بصددها. فقرار إقالة المسئول الأول عن مكافحة الفساد فى مصر، بدعوى أنه بالغ فى تقدير مظان الفساد أو مظاهرة، تزامنت مع طرد نحو خمسين من المدافعين عن استقلال القضاء من وظائفهم التى يفترض انها تتمتع بالاستقلال بنص القانون، وهو ما يسىء أيما إساءة إلى سمعة العدالة فى مصر، وهى السمعة التى نالها التشويه جراء حادث قتل وتعذيب الباحث الإيطالى جوليو ريجينى، الأمر الذى أدى إلى إصدار البرلمان الأوروبى بيانه الشهير الذى ندد بانتهاكات حقوق الإنسان فى البلد، وكانت له أصداؤه القوية فى مختلف العواصم الغربية. ليس ذلك فحسب وإنما تزامن ذلك مع الحملة التى تشنها الدولة ضد منظمات المجتمع المدنى الحقوقية، بعد إحياء قضية التمويل الأجنبى التى أثيرت منذ خمس سنوات. وشاءت المقادير أن يصدر قرار عزل المستشار جنينة وطرد القضاة من وظائفهم فى نفس اليوم الذى بثت فيه قناة الـ«بى. بى.سى» البريطانية شريطا مصورا عن عمليات القتل التى يتعرض لها جنود الأمن المركزى على أيدى بعض ضباط الشرطة، الأمر الذى وثق مدى الظلم والمهانة التى يتعرض لها أولئك الجنود البسطاء والفقراء داخل معسكرات الداخلية. وإذا أضفنا إلى ذلك أخبار التفجيرات والعمليات الإرهابية فى سيناء. فإنه يكشف عن اتساع دائرة المواجهات والجبهات التى تخوض السلطة معاركها عليها. وربما كان من الحكمة وحسن الترتيب ألا تتم كل تلك المعارك والمواجهات فى نفس الوقت، لكن الذى حدث كان العكس تماما، الأمر الذى أعطى انطباعا بأن مصر لن تعرف الاستقرار فى الأجل المنظور.