فهمي هويدي
أفهم أن تستنكر الجامعة العربية عدم دعوتها لاجتماع باريس الذى عقد لبحث الأزمة الليبية، ودعيت إليه مصر وتركيا والإمارات وقطر. لكننى أفهم أيضا لماذا أقدمت الحكومة الفرنسية على تلك الخطوة. ذلك أن باريس الجادة فى بحث الموضوع دعت الأطراف الفاعلة على الأرض فى ليبيا، ولست أشك فى أن المسئولين الفرنسيين الذين تولوا الأمر حين قلَّبوا صفحات الملف الليبى فإنهم لم يجدوا ذكرا للجامعة العربية. فى حين وجدوا حضورا متباينا لتلك الدول. وأغلب الظن أن أقرانهم أثبتوا ذلك الغياب ليس فى الملف الليبى وحده، ولكنه حاصل أيضا فيما يخص مختلف القضايا العربية الساخنة، وهى التى حيرت المجتمع الدولى، ودفعت الأمين العام للأمم المتحدة إلى تعيين مبعوثين له لمحاولة إطفاء الحرائق المشتعلة فى سوريا واليمن وليبيا.
هذه الخلفية تسوغ لنا أن نقول بأن الفرنسيين سجلوا غياب الجامعة العربية ولم يفتعلوه. بمعنى أنهم غيبوا الطرف الغائب فعلا، لأنه غائب وليس له أى حضور. ولا نريد أن نظلم الجامعة ونحملها بالمسئولية عن الغياب، لأنها لم تتعمد ذلك حقا، وإنما أرغمت عليه. وتلك مسألة تحتاج إلى شرح، لأن الجامعة ليست كيانا مستقلا عن الدول العربية، ولكنها جماع إرادات تلك الدول. وبسبب انهيار النظام العربى وانفراط عقده، فإن الجامعة فقدت وظيفتها وأصبحت كيانا بلا وظيفة وشكلا بلا مضمون، لذلك فالمشكلة كامنة فى الوضع العربى الذى هو الأصل، وليس فى الجامعة التى هى مرآة له. ولأن ذلك من المعلوم بالضرورة فى السياسة العربية، فقد بات مفهوما ومبررا أن تتجه الأنظار فى حل أى مشكلة صوب الأطراف التى يظن أنها فاعلة وذات صلة بالمشكلة، الأمر الذى يخرج الجامعة العربية من الحسبان ويبقيها فى مقاعد المتفرجين.
لقد عقد مجلس الجامعة العربية اجتماعا لبحث الموقف فى سوريا، بعدما أصبحت حلب تذبح كل يوم وصارت المدن الأخرى تتعرض للحصار والتهديم والخراب. ولم يتحرك مجلس الجامعة إلا بعدما طلبت ذلك دولة الكويت بعد مضى أكثر من ثلاثة أسابيع من الصمت العربى إزاء استمرار حملة محو حلب من الخريطة وتفريغها من سكانها. وما يحدث فى سوريا ليس مختلفا كثيرا عن الحاصل فى اليمن، وأغلب الظن أن الصمت والتجاهل كان يمكن أن يشملا الوضع الليبى أيضا، لولا وجود النفط واهتمام الدول الأوروبية بمصيره وعوائده.
إذا شئنا أن نتصارح أكثر فسنقول إن الجامعة العربية صارت صفرا. لأن الدول العربية باتت تعد أصفارا فى الساحة الدولية. هى أرقام كبيرة فقط فى مواجهة معارضيها وشعوبها، لكنها أصفار خارج حدودها. وتلك حقيقة يتعين الاعتراف بها بعدما صار العالم العربى جسما بلا رأس، وشراذم منكفئة على ذاتها، وعاجزة عن تجاوز مواطئ أقدامها. الأمر الذى سوغ لبعض الباحثين الغربيين أن يديروا فى الوقت الراهن حوارا حول ما أسموه «عصر ما بعد العرب».
ليس ذلك قدرا مكتوبا ولا مصيرا محتوما، لأن بوسع العرب إذا أرادوا أن يستردوا مكانتهم وعافيتهم ومن ثم أن يثبتوا جدارتهم إذا ما تلمسوا أسباب الحضور وانخرطوا فى مسيرة التاريخ. وليس فى ذلك سر، لأن مصادر القوة وأسبابها معروفة وهى فى متناول الجميع. ذلك أن ألف باء القوة فى السياسة أن تستقوى الأنظمة بشعوبها، فى حين أنها فى بلادنا تستقوى على شعوبها. وتلك هى الخطوة الأولى للخروج من التاريخ.
إننا لا ينبغى أن نلوم الجامعة العربية إذا تم تجاهلها، لكننا لا نستطيع أن نلوم الفرنسيين إذا هم تجاهلوها.