بقلم فهمي هويدي
موقف بعض الصحف المصرية من فضح صحيفة «الجارديان» البريطانية للمراسل الذى أمدها بتقارير مزورة عن مصر يدعو إلى الدهشة. أتحدث عن المراسل الذى زودها فى وقت سابق ببعض التقارير التى تضمنت معلومات غير حقيقية نسبت إلى مصادر لم تتحدث إليه، وحين تلقت الجريدة شكاوى أشخاص من بين تلك المصادر، فإنها بذلت جهدا كبيرا فى تحرى الأمر واستأجرت محققا ليتولى المهمة. وحين تأكدت من صحة الشكاوى فإنها أوقفت المراسل ونشرت بيانا اعتذاريا لقرائها روت فيه القصة كاملة فى عدد ٢٦ مايو الحالى. وما أن فعلتها حتى التقطت القصة الجهات المعنية فى مصر، وانتهزتها فرصة لكى تضرب عدة عصافير بحجر واحد. من ناحية لكى تشكك فى صدقية الصحف الغربية التى تنتقد مصر، ثم لكى تتهم المراسلين الأجانب بالكذب والاختلاق. وثالثا لكى تؤكد أن مصر تتعرض لمؤامرة تدبرها أيادٍ خفية أجنبية، وان تلك المؤامرة تستهدف نظامها كما تحرص على تشويه صور الانجازات التى تتم على أرضها. من ناحية رابعة فإن الحملة أرادت أن تحذر الصحفيين وعموم المثقفين المعنيين بالشأن العام من الاعتماد على المصادر الأجنبية «المشبوهة».
ليس عندى دفاع عن المراسلين الأجانب، ولكننى أزعم أنه ليس من الانصاف ان يعمم الاتهام على الجميع، بسبب خطأ فرد. كما أنه ليس من الأمانة ان يتم تسييس التقرير الذى نشرته «الجارديان»، على نحو يستخدم التغليط فى إيصال الرسالة إلى القارئ المصرى أو العربى عموما. فقد تبين مثلا ان التقارير التى كتبها الصحفى جوزيف مايتون عن مصر نشرت فى عامى ٢٠٠٩ و٢٠١٠ أثناء وجوده فى القاهرة قبل انتقاله إلى الولايات المتحدة. وهو ما صرح به المتحدث الإعلامى باسم الجارديان، لموقع «صدى مصر»، حين تم التواصل معه لتحديد الفترة التى كتب فيها الرجل عن مصر. وكانت المفاجأة أن تقارير الرجل نشرت قبل ثورة ٢٠١١ ولا علاقة لها بالنظام المصرى الحالى، ثم انه تحدث فى مقالات عن أوضاع البيئة والفساد فى أواخر عصر مبارك. من ثم فالادعاء بأن ما نشرته «الجارديان» كان جزءا من الحملة المزعومة لتشويه مصر واستهداف نظامها يصبح بغير أساس، ولا حاجة لنا بعد ذلك لأن تذكر بما أوردته الجارديان فى بيانها عن ان الرجل كان مراسلا حرا ولم يكن من المحريين المعتمدين لديها. الأمر الذى يجعل الخطأ محسوبا عليه بدرجة أكبر وليس على هيئة تحرير الجريدة وحدها.
أفهم جيدا أن الصحفيين الأجانب ليسوا منزهين عن الهوى. وقد يكون لديهم تحيزاتهم الخاصة بدرجة أو أخرى. لكننا لابد أن نعترف بأننا نحتفى بهم حين يشيد بعضهم بالنظام القائم، لكننا تلاحقهم بسيف الاتهام ونعرضهم للترحيل أو نمنعهم من دخول البلاد إذا ما انتقدوه. علما بأن أغلب انتقاداتهم تنصب على التضييق على الحريات العامة وانتهاكات حقوق الإنسان التى ترصدها المنظمات الحقوقية المستقلة فى مصر. كما يحسب لهم أنهم متحللون من السقوف والضغوط التى تكبل الصحفيين المصريين وتقيد حركتهم.
لقد فوت علينا التوظيف السياسى للبيان فرصة القراءة الرشيدة له التى تتيح لنا أن نستخلص منه دورسا مهنية ثمينة تعلم صحفيينا الكثير من الفضائل التى ينبغى أن يتحلوا بها للارتقاء بأدائهم المهنى. لذلك استغربت وصف بعض صحفنا وكتابنا بيان الجارديان بأنه بمثابة «فضيحة»، فى حين أن القراءة الأمينة له تعتبره وساما على صدر الصحفية، مسكونا بمعانى الأمانة والشجاعة والحرص على احترام الحقيقة والقارئ.
كان بوسع «الجارديان» أن تلملم الموضوع وتتستر على ما جرى، وان تحاسب المراسل أو تعاقبه فى هدوء ودون أن يشعر بذلك أحد. لكنها آثرت أن تطهر صفحتها أمام مصادرها وقرائها، لكى لا تهتز ثقة أى قارئ أو مصدر فى جريدته. وبذلك فإنها لقنت الجميع وفى المقدمة منهم جموع الصحفيين درسا لا ينسى. وهو ما يسوغ لنا أن نقول بأن الجريدة قدمت نموذجا لاحترام القارئ وتحرى الحقيقة فى حين أن صحفنا قدمت نموذجا آخر للانخراط فى التسييس حتى وان تم ذلك على حساب الحقيقة.
يطول بنا الحديث لو أننا فتحنا ملف الأخبار المختلقة التى تسرب إلى الصحف المصرية (القومية بوجه أخص) لتحقيق أهداف سياسة تعبث بادراك القارئ وتشوهه. وهى التى ذهبت إلى حد الادعاء باعتقال قائد الأسطول السادس والتحاق شقيق أوباما بالتنظيم الدولى وشراء الإخوان لأغلبية البرلمان الأوروبى والإعلام الألمانى وتآمر مخابرات الدول الغربية لإسقاط النظام المصرى. ذلك فضلا عن سيل الأخبار المتضاربة التى تنسب إلى مصادر سيادية غامضة لا تعرف هويتها.
كان بوسعنا ان نحتفى ببيان الجارديان ونعمم دروسه على أجيال الصحفيين لكى يتعلموا منه أصول احترام الحقيقة والقارئ، إلا أننا لم نأخذه عبر محمل الجد، وآثر كثيرون أن يغمضوا أعينهم عما فيه، مفضلين الاستسلام للهزل الذى يقدمونه ــ وا أسفاه.