فهمي هويدي
فى الآونة الأخيرة صرنا نتلقى دروسا منتظمة فى فنون فض الأنصار واستعداء المؤيدين. الأمر الذى يجعلنا نستحضر فى كل مرة قصة الدبة التى قتلت صاحبها وهى تحميه من الذباب الذى يزعجه. ذلك أن ممارسة تلك الفنون تتم بدعوى التأمين والحماية والذود عن حياض السلطة والحفاظ على هيبتها. خذ مثلا ما حدث مع نقابة الصحفيين التى اقتحمت الشرطة مقرها فى بداية شهر مايو لأول مرة فى تاريخها، وفى نهاية الشهر تم احتجاز نقيب الصحفيين وسكرتير النقابة ووكيلها فى أحد أقسام الشرطة بعد توجيه الاتهام إليهم وتغريم كل منهم عشرة آلاف جنيه، أيضا لأول مرة فى تاريخ النقابة. وبين التاريخين مارست السلطة من خلال أبواقها ألاعيب عدة كانت نتيجتها عكسية لأنها عبأت الرأى العام الصحفى ضد النظام. إذ أدرك الصحفيون أن السلطة تسعى إلى إذلالهم وإهانتهم وتعمل على شق صفوفهم. إلى جانب سعيها لإحداث انقلاب داخل النقابة يسقط مجلسها الحالى ويأتى بمجلس جديد من «الشرفاء» الموالين.
يحدث ذلك فى حين أن مجلس النقابة وجموع الصحفيين لم يكونوا يوما ما من معارضى السلطة وإنما كانوا من مؤيديها، لكن مشكلتهم الوحيدة أنهم دافعوا عن استقلال النقابة وكرامة الصحفيين. كما دافعوا عن حق الصحفيين فى الاختلاف وممارسة حرية الرأى.
اقتحام مبنى النقابة كان صادما ومهينا فى الوقت ذاته. ليس فقط لأنه حدث لأول مرة منذ أنشئت النقابة قبل ٧٤ عاما، ولكن لأنه استهدف إلقاء القبض على زميلين احتميا بالنقابة بعد أن لاحقتهما الشرطة فى الوقت الذى كان نقيب الصحفيين يتفاوض مع الداخلية لترتيب أمر تسليمهما. لكن جهة ما لم يعجبها التفاوض لحل الإشكال، وفضلت استخدام القوة الذى تم بشكل غير قانونى لأن ذلك ما كان له أن يحدث إلا بحضور النقيب. ولم يكن هناك تفسير برىء لرفض التفاهم وتفضيل الاقتحام واستعراض القوة. لأن الرسالة هنا كانت واضحة وفيها من الحرص على الإخضاع أكثر مما فيها من احترام رمزية المكان أو الالتزام بالقانون.
كانت تلك بداية تفجير الاحتكاك والتحرش بالصحفيين الذى كنا فى غنى عنه. بعد ذلك تتابعت حلقات التحرش التى عمقت الفجوة بين السلطة والجماعة الصحفية. إذ عمدت بعض الأبواق الإعلامية إلى تشويه مجلس النقابة والادعاء بأنه عمد إلى تسييسها ودعت إحدى الصحف القومية إلى مؤتمر لمناهضة المجلس طالب المتحدثون فيه بإسقاطه من خلال إجراء انتخابات جديدة. وأقحم مجلس النواب فى الموضوع لتكثيف الهجوم على المجلس والنقابة. وأخيرا دعى النقيب ومساعداه للإدلاء بأقوالهم فى موضوع الزميلين اللذين كانا قد احتميا بالنقابة. وحين توجهوا إلى مقر النيابة اكتشفوا أنهم تحولوا إلى متهمين نسب إليهم إذاعة أخبار كاذبة عن اقتحام النقابة وإيواء مطلوبين للعدالة. وبعد سماع أقوالهم أخلت النيابة سبيلهم بكفالة عشرة آلاف جنيه لكل منهم. وحين رفضوا دفع الكفالة تعقد الموضوع وذاع الخبر فى المحيط الصحفى، فهرعت أعداد منهم للتضامن معهم. وكاد الأمر يتحول إلى أزمة لولا تدخل أطراف دفعت الكفالة وأنقذت الموقف. الأمر الذى سمح للنقيب ومساعديه بالعودة إلى بيوتهم بعدما تقرر النظر فى قضيتهم يوم السبت المقبل.
فى الموضوع تفصيلات كثيرة، خلاصتها أن السلطة أصرت على التنكيل بالنقيب وممثلى مجلس النقابة وكسر إرادة الصحفيين الذين رفضوا الخضوع لابتزاز الداخلية وضمهم إلى «بيت الطاعة».
حين يدقق المرء فى حلقات المسلسل يجد أن الأمر كان يمكن أن يحل بقليل من السياسة وببعض الكياسة. التى كان يمكن أن تحفظ للصحفيين كرامتهم وللسلطة هيبتها، خصوصا أنه لم تكن هناك جريمة بالمعنى القانونى. ذلك أن النقيب ومجلس النقابة لم يتحدوا السلطة، ولكنها هى بادرت إلى إهانتهم باقتحام النقابة فيما كانت الاتصالات جارية لحل الإشكال سلميا. وحين حدث ذلك فلم يكن أمام النقيب والمجلس سوى أن يدافعوا عن كرامتهم وكرامة النقابة والجماعة الصحفية. إن شئت فقل إن الإجراء المهين الذى لجأت إليه الداخلية هو الذى أحدث الشرخ مع الصحفيين، وحين استمرت الداخلية على موقفها فإن الشرخ تحول إلى فجوة اتسعت بمضى الوقت.
موقف التحدى وإيثار استخدام قوة السلطة ورفض الحلول السياسة والسلمية، ظل حاكما لعلاقة السلطة مع العديد من مكونات المجتمع بدءا من نقابتى الأطباء والمحامين والمنظمات الأهلية وعمال المصانع وحملة الدكتوراه ووصولا إلى الشباب الذين قيل لنا قبل عدة أشهر أن هذا عامهم الذى سيلقون فيه عناية مميزة وغير مسبوقة. لكننا شهدنا تنكيلا مثيرا للدهشة بأعدادهم التى خرجت فى مظاهرات احتجت على ضم الجزيرتين تيران وصنافير إلى السعودية. ورغم أن تلك المظاهرات لم تكن معادية وكانت سلمية فى طابعهما، فإن أولئك الشبان حكم عليهم بالسجن ما بين عامين وخمسة أعوام. وعند الاستئناف ألغى الحبس وحكم على كل واحد منهم كفالة ١٠٠ ألف جنيه، لمخالفتهم قانون التظاهر. وشاءت المقادير أن يتزامن ذلك مع الحكم على راقصة أجنبية خالفت القانون بكفالة خمسة آلاف جنيه. ولك أن تتصور تعليقات مواقع التواصل الاجتماعى على تلك المفارقة.
فى هذه الحالة أيضا كان يمكن بقليل من السياسة والكياسة أن يعم احترام وامتصاص مشاعر الشباب ومن ثم كسبهم إلى صف النظام الذى لم يكونوا ضده. ولكن السلطة آثرت الردع والقمع الذى نستطيع أن نتصور النتائج المعاكسة التى تترتب عليهما.
لا أعرف من يتبنى هذه اللا سياسة التى تنفر المؤيدين وتسحب من رصيد النظام. لكن الذى أعرفه أن الصدور تضيق فى دوائر السلطة حينا بعد حين، وأن الخلاف لم يعد يبقى على مجال للود، وأن مصطلح التسامح ومفردات السياسة سقطت من قاموس المرحلة.