بقلم فهمي هويدي
مصر تتحدث إلى الأجانب فى السياسة، فى حين يركز خطابها إلى المصريين على الاقتصاد. هذه ملاحظة تستوقف المتابع للتصريحات الرسمية التى تبرزها وسائل الإعلام. فطوال الأسبوع الماضى مثلا ظل الشاغل الأساسى للفضاء المصرى متمثلا فى أزمة الدولار واختفاء السكر من الأسواق ومساهمة القوات المسلحة فى حل الإشكال وأصداء كل ذلك على التعاملات فى البورصة. فى الأسبوع ذاته التقى الرئيس عبدالفتاح السيسى وفدا يمثل البرلمان الأوروبى. وبعد اللقاء صرح المتحدث الرسمى باسم الرئاسة بأن الرئيس «أكد خلال اللقاء على حرص الدولة على ترسيخ قيم الديمقراطية وسيادة القانون والمواطنة، وعملها على إعلاء الحريات وحقوق الإنسان بمفهومها الشامل، الذى يتضمن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية» (جريدة الأهرام ٣/١٠).
نحن لا نعرف الكثير عما يدور فى لقاءات الرئيس بالمسئولين الأجانب، حيث تظل معلوماتنا فى أغلب الأحوال مقصورة على ما تنشره الصحف منسوبا إلى الرئيس أو المتحدث باسم الرئاسة. مع ذلك فلعلنا لا نخطئ حين نستنتج أن تواتر الإشارة فى أعقاب تلك اللقاءات إلى حرص الدولة على ترسيخ قيم الديمقراطية دليل على أنها أثيرت مع الرئيس. وهو أمر مفهوم لأن قلق الأوروبيين والأمريكيين على الوضع الراهن فى مصر لم يعد سرا، خصوصا أن الدبلوماسيين الغربين فى القاهرة لا يخفونه فى أحاديثهم. إذ لا يكفون عن الحديث عن أهمية ذلك الاستقرار بالنسبة لهم ليس بالنسبة لمصر وحدها، ولكن لأنهم يدركون أن ذلك يعد أحد مفاتيح الاستقرار فى الشرق الأوسط كله. استطرادا ــ وبالمناسبة ــ فإن الدبلوماسيين الغربيين يعربون عن دهشتهم وسخريتهم إزاء ما تنشره بعض وسائل الإعلام المصرية عن تآمر العواصم الغربية على مصر. وقد سمعت من أحدهم قوله إن ما ينشر فى مصر بهذا الخصوص ليس سوى قنابل صوتية تطلق فى الفضاء العام لحسابات داخلية بحتة.
الشاهد أن المبعوثين الغربيين الذين يزورون مصر تؤرقهم أزمتها السياسية ويرون فيها خطرا يهدد مستقبل البلد، كما أن وفودهم لا تجد حرجا فى إثارة الموضوع مع من يلتقونهم فى القاهرة، فى حين أن خطاب الداخل المتمثل فى الأحاديث الرسمية، الذى يوجه للمصريين يتجاهل هذه الأزمة ويركز فقط على الشق الاقتصادى الذى أصبحت مختلف طبقات الشعب تعانى بصورة مباشرة من وطأته. وللدقة فإن تجاهل السياسة فى خطاب الداخل ليس مرتبطا بأزمة الغلاء الفاحش التى تفاقمت فى الآونة الأخيرة، ولكنه سابق على ذلك بعدة أشهر. آية ذلك مثلا أن برنامج الحكومة الذى قدمه رئيس الوزراء إلى مجلس النواب فى شهر مارس الماضى وقع فى نحو مائتى صفحة، خصصت ١٥٠ صفحة منها لمشروعات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والمشروعات القومية، فى حين خصصت ثلاث صفحات فقط للأمن القومى وقضية الديمقراطية، وهذه تمت صياغتها على نحو إنشائى كما قيل بحق، كما أن التركيز على الشأن الاقتصادى أصبح سمة واضحة للأحاديث الموجهة للداخل التى يدلى بها الرئيس السيسى وأحدثها ما تم فى لقائه مع رؤساء تحرير الصحف القومية فى منتصف شهر أكتوبر الماضى.
هذا التحليل يسوغ لنا أن نقول بأن إغلاق باب الحديث فى الأزمة السياسية فى الداخل ليس مصادفة، ولا هو موقف طارئ، ولكنه يعكس رؤية استراتيجية تعتبر قضية الديمقراطية ملفا مؤجلا، بدعوى أنه لا صوت يعلو فوق صوت الاقتصاد. وذريعة الإرهاب الذى يبالغ فيه كثيرا جاهزة لتبرير تلك الرؤية. ورغم أن حدوده الحقيقية لا تتجاوز سيناء، إلا أنه يجرى التهويل فى شأنه والإدعاء بأن مصر كلها تخوض حرب وجود، وأنها باتت بحاجة إلى تبنى اقتصاد الحرب. وهو ما يسهم فى مصادرة الحديث عن الديمقراطية وإطلاق الحريات العامة.
وإلى أن تصحح المعادلة، بحيث يحتل إصلاح السياسة موقعه الطبيعى كمدخل لإصلاح الاقتصاد، فسوف يظل ملف السياسة مفتوحا مع الأجانب ومحظورا على المصريين.