الصور المروعة التى خرجت من اليمن خلال الأسبوعين الأخيرين سلطت الأضواء على وجه آخر للحرب العبثية الدائرة هناك، التى تدخل الآن عامها الثالث. لم تكن صورا للمتقاتلين، ولا للمدنيين فى مناطق الصراع، لكنها كانت للمحاصرين الذين منع عنهم الغذاء والدواء. فضربتهم المجاعة حتى حولتهم إلى هياكل عظمية تزحف بصعوبة على الأرض. أعادت الصور إلى أذهاننا بشاعات مشاهد «مخيم اليرموك» فى الشام. الذى حوصر عدة أشهر وقطعت عنه سبل الحياة، فعصفت المجاعة بسكانه الذين تحولوا إلى أشباح.
مأساة المجاعة فى اليمن أكثر تعقيدا، ذلك أن ضحاياها يتوزعون على مناطق عدة على رأسها تهامة اليمن التى تشمل محافظتى الحديدة وحجة. اللتين يعيش فيهما نحو مليون شخص. وهى المناطق الأكثر فقرا، على الرغم من خصوبة أرضها التى جعلت منها سلة غذاء اليمن وتحكم فى مواردها شيوخ الجبل وكبار الملاك. ناهيك عن أن الحديدة تعد الميناء الأهم فى شمال اليمن الذى تحكم فيه الحوثيون. بسبب فقرهم وبشرتهم السوداء فقد ظلموا تاريخيا وأصبحوا يصنفون باعتبارهم «خداما»، تكال إليهم الأعمال الوضيعة. وكما أهملوا فى الماضى فإن مأساتهم أهملت بدورها، وحين حوصر ميناء الحديدة لمنع تشغيله أو التحكم فيه فإن ما أصاب الأهالى جراء ذلك لم يكترث به أحد.
(٢)
المجاعة تعد عنوانا لفصل واحد فى كتاب الكارثة التى حلت به. ذلك أن الصراع الدائر أشاع الخراب والدمار فى أنحاء البلاد، وأسال دماء غزيرة لضحايا أبرياء يفوق عددهم الحصر، ففى غارة واحدة على مجلس للعزاء فى صنعاء قتل ١٤٠ شخصا وأصيب أكثر من ٥٠٠، وما حدث فى صنعاء له نظيره فى المخا وتعز والبيضاء وأب وغيرها. ليس ذلك فحسب، وإنما تسبب الصراع فى إصابة دولاب الدولة بالشلل، وبسببه فإن موظفى الدولة لم يقبضوا رواتبهم منذ ثلاثة أشهر.
هذه المأساة تتابعت فصولها منذ شهر سبتمبر عام ٢٠١٤، حين زحف الحوثيون من معقلهم فى الشمال وبالتواطؤ مع رئيس الجمهورية السابق على عبدالله صالح استطاعوا السيطرة على صنعاء، ولأن مسرح العمليات فى جنوب الجزيرة العربية، ولأسباب أخرى يتعلق بعضها بالموقع الاستراتيجى والبعض الآخر بالدور السعودى فى الحرب. فإن ما يجرى فى اليمن لم يلق ما يستحقه من الاهتمام على الصعيدين السياسى والإعلامى. ساعد على ذلك أن التفاعلات الحاصلة فى المشرق، فى سوريا والعراق بوجه أخص، طغت على ما عداها، ومن ثم استأثرت بالاهتمام والأضواء. حتى مصر التى هبت لمساندة ثورة اليمن فى عام ١٩٦٢ وروت دماء جنودها أرض اليمن فى الشمال والشرق خرجت من المشهد تماما وانشغلت عنه بأحداثها الداخلية.
الشاهد أن ما حسبناه تمردا يسهل احتواؤه فى عام ٢٠١٤ استطاع أن يتمدد ويثبت قواعده لأسباب عدة، بعضها يتعلق بالدعم الإيرانى وبعضها يتعلق بالعوامل المذهبية والقبلية ويرجع البعض الثالث إلى تشرذم القوى السياسية وهشاشتها. ترتب على ذلك أنه خلال الفترة التى أعقبت الاستيلاء على صنعاء تحول «التمرد» إلى قوة تتحدى السلطة الشرعية وتناطحها. ومن ثم تتعامل معها من موقف الند، الذى استند إلى قوة الأمر الواقع.
خلال السنتين ونصف السنة لم تحسم المواجهة العسكرية الصراع. كما أن المفاوضات لم تحدث أى اختراق فى المشهد حتى الهدنة التى أعلن عنها أكثر من مرة، سرعان ما كانت تنهار ليستأنف القتال بعد ذلك. وكان تعثر المفاوضات وفشلها فى تحقيق أى إنجاز سببا فى استقالة المبعوث الدولى جمال بن عمر، وتعيين موفد آخر هو أسماعيل ولد الشيخ الذى يحاول جاهدا إيجاد مخرج من الأزمة، وأخيرا قدم ما وصف أنه «خارطة طريق» للحل. وقد ذكرت التقارير الصحفية أنه خلص إليها بعد مشاورات أجراها مع الرباعية المتمثلة فى المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية (الشريكة فى الحرب) والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا.
(٣)
فى السابق كانت هناك مبادرات أخرى للإنقاذ. إحداها قدمها محسن العينى رئيس وزراء اليمن الأسبق وأخرى أطلقها رئيس اليمن الجنوبى الأسبق على ناصر محمد (الاثنان يقيمان فى القاهرة) إلا أن مشروع المبعوث الدولى إسماعيل ولد الشيخ هو الأحدث، وهو موضوع المناقشة الجارية بين الفرقاء الآن.
جوهر الخطة الدولية يشبه جوهر «المبادرة الخليجية» التى طرحت عام ٢٠١٢، وبمقتضاها تم تفويض صلاحيات الرئيس لنائبه. وهو ما حدث مع الرئيس السابق على عبدالله صالح الذى ألزم بتفويض صلاحياته لنائبه عبدربه منصور هادى، الذى أصبح فيما بعد رئيسا توافقيا. كذلك فإن خطة ولد الشيخ ــ وأنا هنا أنقل عما نشرته صحيفة «القدس العربى» للباحث اليمنى محمد جميح ــ تلزم الرئيس هادى بالتنازل لنائب توافقى يكون بمثابة الرئيس الفعلى، مع احتفاظ هادى بمنصب رئيس شرفى لحين الانتخابات المقبلة. وهو ما رفضه معسكر الرئيس هادى، حيث يقولون إن تلك كانت مطالب جماعة صالح والحوثيين، وإن ولد الشيخ انصاع لها، وهم يتساءلون: كيف يحق للمبعوث الدولى أن يطلب تنازل رئيس منتخب عن صلاحياته قبل إجراء الانتخابات؟... ويبنون على ذلك قولهم أن الخطة تمثل إضفاء الشرعية على انقلاب الحوثيين فى ٢١ سبتمبر عام ٢٠١٤، يضيفون فى نقدهم للخطة أنها استهدفت أيضا نائب الرئيس الحالى على محسن الأحمر، الذى يلزم أيضا بتقديم استقالته فور قبولها، لإفساح المجال لاختيار نائب رئيس توافقى جديد يقبل به الحوثيون، تقترح الخطة أيضا أن يتم خلال الثلاثين يوما التالية للتوقيع على الاتفاق تشكيل حكومة وحدة وطنية على أساس المحاصصة بين الفرقاء السياسيين، بحيث تضمن ٥٠٪ من حقائبها للجنوب و٣٠٪ للمرأة.
الخلاصة أن معسكر الحوثيين ــ صالح رفض الخطة لأنها نصت على وجوب الانسحاب من صنعاء وتعز والحديدة، وكذا تسليم السلاح الثقيل والمتوسط. بالإضافة إلى تسليم الصواريخ الباليستية. بالمقابل فإن معسكر الرئيس هادى رأوا فى الخطة مساسا بالشرعية، وتغاضيا عن الانقلاب وما يترتب عليه من حرب ودمار، ورأوا أنها بمثابة مكافأة للانقلابيين على جرائمهم التى ارتكبوها منذ عام ٢٠١٤.
(٤)
هناك عقبتان أخريان تعترضان خطة ولد الشيخ. الأولى أن الرئيس هادى وجماعته متمسكون بالسلطة ويرفضون التخلى طواعية عنها. الثانية والأهم أن المملكة العربية السعودية منزعجة من الدور الذى يقوم به الحوثيون، ليس قلقا منهم ولكن لكونهم أصبحوا يمثلون النفوذ الإيرانى فى المنطقة. وفى التجاذب الحاصل الآن بين الرياض وطهران فإن رفض السعودية لوجود النفوذ الإيرانى على حدودها الجنوبية يصبح مفهوما، لأنه يعد تهديدا لأمنها القومى، بل لأمن الخليج القلق والمتوجس من التطلعات الإيرانية، وقد عبر الكاتب السعودى جمال خاشقجى عن هذا الموقف حين ذكر فى التعليق على هذه النقطة أنه «من الأفضل للمملكة أن تدخل حربا فى اليمن لعقد كامل تذود بها عن الجزيرة كلها، ولا تقبل بسخف مثل هذا» (الحياة اللندنية ــ ٥/١١).
حتى الآن قتل فى الصراع الحاصل بين الحوثيين والسلطة الشرعية عشرة آلاف يمنى على الأقل. وتم تشريد ثلاثة ملايين. وذكرت تقارير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشئون الإنسانية أن ٢١.٢ مليون شخص يمثلون ٨٢٪ من السكان أصبحوا بحاجة إلى المساعدة لتلبية احتياجاتهم الأساسية منهم أكثر من ١٩ مليونا لا يستطيعون الوصول إلى المياه النظيفة، وإلى جانب هؤلاء فهناك أكثر من سبعة ملايين شخص يحتاجون إلى دعم يؤمن لهم لوازم الإيواء والمستلزمات المنزلية الأساسية. وفى تقدير المصادر الغربية أن تكلفة الحرب الدائرة وصلت الآن إلى ٢٠ مليار دولار.
على الرغم من كل ما سبق فإن الحرب لاتزال مستمرة، بالتالى فحملة إفناء وتجويع الشعب اليمنى بدورها مستمرة، وبعد مضى ثلاثين شهرا تبين أن السلطة الشرعية غير قادرة على كسر شوكة الحوثيين وإجبارهم على التسليم، كما أن الحوثيين ليسوا قادرين على بسط هيمنتهم على اليمن وإسقاط الحكومة. وإزاء ذلك الاستعصاء فإن الاستمرار فى القتال يعد نوعا من الإصرار على الانتحار الجماعى، الذى يشيع الموت والخراب فى أرجاء اليمن.
هذا الاستعصاء عاش فى ظله لبنان طوال الثلاثين شهرا الماضية. لكنه ظل سياسيا فى بيروت وليس دمويا كما فى اليمن. إذ عقد البرلمان اللبنانى ٤٥ جلسة فشل خلالها فى حل مشكلة الرئاسة، وأخيرا وجدوا الحل فى توزيع تجرع السم على المتصارعين. وجميعهم عاشوا سنوات الحرب البائسة التى ملأت جسم لبنان بالجروح والندوب. إذ حين أدركوا أن من شأن استمرار الاستعصاء ضياع لبنان وانهياره، قبل كل طرف بأن يتراجع خطوة إلى الوراء وأن يختزن بعضا من مراراته، لإنقاذ البلد من المصير المروع الذى كان ينتظره إذا ما أدت الخصومات إلى استمرار «الشغور» الرئاسى، على حد قولهم.
لا سبيل إلى إنقاذ اليمن من الانتحار وإنهاء عذابات اليمنيين إلا بالتوافق على حل مماثل. وهى مهمة ليست سهلة، لأن العقل السياسى فى لبنان أكثر نضجا بمراحل منه فى اليمن. وإذا كانت هناك شكوك فى وجود سياسة أو عقل لدى الحوثيين، فما الذى يمنع من التفاهم مع كفلائهم الإيرانيين؟
أدرى أن ثمة مشاكل كثيرة ومعقدة فى التفاصيل، ولكن التصدى لها لا محل له إلا إذا تم الاتفاق أولا على مبدأ تجرع السم وتوزيع الخسائر، طالما أنه ليس بوسع أى طرف أن يحقق الانتصار الذى ينشده.