بقلم فهمي هويدي
ليس صحيحا أننا نعانى من تدخل الدين فى السياسة، لأن العكس هو الصحيح فى مصر على الأقل. ذلك أن المؤسسات الدينية ــ وليس الكنائس وحدها ــ تراجعت قوتها وجرى إضعافها ضمن الضعف الذى أصاب جميع مؤسسات المجتمع وفاعلياته، لذلك فإنها تحولت إلى مجرد ديكور فى المشهد السياسى. وإذا استخدمنا مفردات النقد الرياضى فربما جاز لنا أن نقول إن السياسيين أو الذين يديرون السياسة ظلوا الفريق الأصلى طول الوقت. هم اللاعبون الحقيقيون الذين يقررون المصير ويسجلون الأهداف ويجنون ثمارها. أما الرموز الدينية فقد خصصت لهم مقاعد «البدلاء» بشكل دائم، فظلوا متفرجين وبقوا مشجعين ومصفقين بالأساس. وسنِّيدة ومعاونين رهن الإشارة إذا لزم الأمر. لذلك أزعم بأن الكلام عن تدخل الدين فى السياسة هو فى حقيقة الأمر شعار مغلوط تماما.
تاريخيا فى مصر، فإنه كلما قويت شوكة السلطة المركزية، بحيث بسطت سلطانها على المجتمع وتغولت فيه، ازدادت جرأتها على توظيف الدين لصالحها. وكان ذلك التغول من سمات الدولة المصرية الحديثة التى شرع محمد على باشا والى مصر فى تأسيسها فى بداية القرن التاسع عشر.
قبل ذلك التاريخ، كانت المؤسسة الدينية ممثلة فى الأزهر قوة روحية وسياسية فى الوقت ذاته. إذ كان الأزهر قلعة مقاومة الاحتلال الفرنسى فى ثورتى القاهرة عامى ١٧٩٨ و١٨٠٠. وظل سند المظلومين فى مواجهة عسف أمراء المماليك. وحين استمرت المظالم وزادت الضرائب فى عهد الوالى التركى خورشيد باشا، فإن علماء الأزهر هم من رفعوا شكايتهم إليه، وحين لم ينتصح فإنهم أعلنوا التمرد عليه وقادوا محاصرته فى القلعة إلى أن استسلم. وأرغم الخليفة العثمانى على تولية محمد على حكم مصر وخلع خورشيد باشا. فقام نقيب الأشراف السيد عمر مكرم وشيخ الأزهر عبدالله الشرقاوى بإلباسه خلعة الولاية فى عام ١٨٠٥، بعدما اشترطوا عليه أن يحكم بالعدل وإلا تم عزله.
علماء الأزهر آنذاك لم يتصرفوا بحسبانهم وعاظا ولا سلطة دينية، ولكنهم كانوا جزءا من النخبة الوطنية التى تصدت للظلم وانحازت إلى الشعب واستقلاله، فى بواكير الحركة الوطنية المصرية. إلا أن محمد على باشا الذى أدرك قوة المؤسسة الدينية لجأ إلى إضعاف الأزهر حين أراد الانفراد بالسلطة. ولجأ فى ذلك إلى التفنن فى السيطرة عليه بوسائل عدة فصَّلتها الدكتورة ماجدة على صالح ربيع فى رسالتها للدكتوراه وكتابها الذى صدر فى عام ١٩٩٢ بعنوان «الدور السياسى للأزهر».
رصدت الدراسة السابقة أطوار سيطرة السلطة على الأزهر. التى انتهت بتأميمه وتحويله إلى مؤسسة تتولى «تعبئة الأفراد لتأييد سياسة الحاكم»، وهى العبارة التى ختمت بها الدكتورة ماجدة الفصل الخاص بالقضاء على استقلال الأزهر، وهى للمصادفة ذات العبارة التى انتقد فيها المثقفون الأقباط أخيرا موقف الكنائس إزاء رحلة الرئيس السيسى للأمم المتحدة وقيامها بدور «الشحن والتعبئة لتأييد النظام القائم».
لقد أثبتت التجربة فشل فكرة الفصل بين الدين والدولة، ناهيك عن تعذر ذلك الفصل من الناحية العملية، خصوصا فى المجتمعات التى يتجذر فيها الشعور الإيمانى، لذلك فإن التحدى الحقيقى يتمثل فى كيفية صياغة تلك العلاقة بصورة متوازنة تحول دون طغيان كل طرف على الآخر. بحيث لا توظف الدولة الدين لصالحها، ولا تتحكم المؤسسات الدينية فى سياسة الدولة. والصيغة المطروحة للحفاظ على ذلك التوازن تقوم على عنصرين، أولهما التمييز بين الدين والسياسة واحترام حدود كل منهما من ناحية، وثانيهما الالتزام بقيم الديمقراطية والحرية التى تحمى المواطنة وتضمن المشاركة وتقوى حضور المجتمع بمختلف مؤسساته المدنية والدينية، بما يحول دون تغول السلطة واستبدادها. والشرط الواجب توافره فى كل ذلك يتمثل فى السؤال التالى: هل هناك رغبة حقيقية ومخلصة فى العيش المشترك أم لا؟