بقلم فهمي هويدي
تغريبة المصريين موضوع شائق وشائك ينكأ جراحا عانت منها مصر منذ خمسينيات القرن الماضى. ولئن تبدت التغريبة فى هجرات شرائح معينة إلى الخارج. إلا أنها ترسم فى الوقت نفسه قسمات وإكراهات الداخل، التى تتمثل فى طبيعة الظروف الطاردة التى أفضت إلى تلك النتيجة. وهى فى الوقت الحاضر أشد وأوسع نطاقا منها فى موجات التغريب التى عرفتها مصر فى تاريخها المعاصر.
أطلقت أجراس التنبيه للظاهرة هذا الأسبوع دراسة قدمتها الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان (أعدها معتز حجاج) عنوانها «التغريبة الثالثة ــ عن هجرة ورحيل المصريين غير الطوعية إلى الخارج». مقدمة الدراسة كتبها الدكتور خالد فهمى أستاذ التاريخ المغترب بالولايات المتحدة. وقد اعتبر أن التغريبة الأولى تمت فى الخمسينيات جراء الصدام الذى حدث بين النظام الناصرى والإخوان، الأمر الذى أدى إلى نزوح أعداد كبيرة منهم إلى دول الخليج وفى المقدمة منها السعودية. أما التغريبة الثانية فقد تمت فى المرحلة الساداتية، وتعالت موجتها فى أعقاب توقيع اتفاقيات كامب ديفيد. وفى ظلها خرجت من مصر أعداد كبيرة من المثقفين الذين انتقلوا إلى الكويت والعراق وسوريا والجزائر، وهى الدول التى فتحت أبوابها لأصحاب الاتجاهات القومية واليسارية. أما التغريبة الثالثة والأخيرة فقد جاءت مواكبة للمتغيرات التى تلاحقت فى أعقاب ثورة يناير ٢٠١١ وصولا إلى نظام ٣ يوليو ٢٠١٣. وأهم ما ميزها أنها اختلفت عن التغريبتين السابقتين من نواحٍ عدة أبرزها ما يلى:
< إن الذين اغتربوا فى المرحلة الأخيرة كانوا خليطا من مختلف الاتجاهات. بعضهم انتمى إلى ثورة يناير وأصابهم الإحباط والخوف، وبعضهم إسلاميون أقلقهم ما جرى وصاروا محلا للاتهام والملاحقة، وبعضهم ليبراليون واكاديميون مستقلون جعلتهم آراؤهم محل شبهة فآثروا السلامة وتركوا البلد.
< إنهم لم يتجهوا إلى الخليج أو الدول العربية. إذ باستثناء قلة استقبلتهم قطر، (أغلبهم من الإخوان الذين لجأ نفر منهم إلى تركيا)، فإن الآخرين توزعوا على الدول الأوروبية والولايات المتحدة.
(من عندى أضيف أن تغريبة ما بعد ثورة ٢٥ يناير شملت آخرين. فأعوان مبارك ورموز مرحلته لجأوا إلى الخليج واستقر أغلبهم فى دبى. وأثناء حكم الإخوان تعالت مؤشرات هجرة بعض الأقباط إلى أوروبا وأمريكا وبعد قيام نظام ٣ يوليو خرجت موجة من رجال الأعمال الذين قلقوا على استثماراتهم ومشروعاتهم التى أصبحت مهددة فى ظل الاضطراب الأمنى والركود الاقتصادى المخيم).
عن التغريبة الأخيرة ذكر الدكتور خالد فهمى أن الرحيل «لم يكن طوعيا واختياريا، بحيث لم يكن أغلبه هربا من قضية سياسية أو بحثا عن لقمة العيش، لكنه كان تغريبة (بمعنى حمل الإنسان على الغربة ودفعه للابتعاد) عنوانها الرئيسى هو الرحيل بحثا عن أفق سياسى أرحب، لا يسيطر فيه الخوف والتفتيش فى الضمائر، بعيدا عن القمع والتخوين والملاحقة والتشهير».
الاستقصاء تم فى ٨ دول عربية وأوروبية وأمريكية وآسيوية، وشمل عينة من ٣١ شخصا من خلفيات سياسية وأعمار ومهن مختلفة فضلا عن النوع، فى حين استبعد المتهمون فى قضايا عنف أو إرهاب، وقد طرحت عليهم أسئلة عدة أهمها ما تعلق بسبب الخروج واحتمالات العودة وتقييم أوضاعهم فى الخارج، وإذ تعددت الشهادات واختلفت التفاصيل، إلا أن الجميع اشتركوا فى أن الخوف على الذات والأسرة والمستقبل كان سبب الاغتراب. وان عودتهم مرهونة بزوال أسباب الخوف. ولأن أغلبهم من المهنيين وأصحاب الكفاءات، فإنهم تمكنوا من الالتحاق بأعمال مكنتهم من تغطية نفقات معيشتهم. مع ذلك فلا يزال ينغص عليهم حياتهم حملات التشويه والتخوين التى تشنها عليهم وسائل الإعلام فى الداخل، وموقف القنصليات المصرية التى ترفض التعاون معهم.
لأسباب مفهومة خلا الاستبيان من إحصاء وإعداد من شملتهم التغريبة، وانضموا خلال السنوات الثلاث الأخيرة إلى كتلة الثمانية ملايين مصرى (العشرة ملايين فى قول آخر) الذين اغتربوا فى ظروف عادية سعيا وراء تحقيق حلم الحياة الأفضل وربما الفرصة الأفضل. إلا أن هؤلاء الأخيرين اغتربوا كارهين ولايزال حلم العودة يراودهم.