بقلم فهمي هويدي
الجهد الذى يبذل فى مصر لإنجاز المشروعات مرصود ومحمود، لكننا لا نكاد نرى أثرا لتلك الهمة على صعيد الحريات. آية ذلك أننا إذا قارنا بين نصيب كل منهما من الاهتمام سنجد أن مؤشر الأول فى صعود يبعث على التفاؤل النسبى، فى حين أن مؤشر الحريات متجه إلى هبوط يثير القلق والخوف. الأمر الذى يفتح الباب واسعا للحيرة التى تجعل المرء فى وضع «المتشائل» (إذا استعرنا المصطلح إلى صكه الأديب الفلسطينى إميل حبيبى) . فلا هو يستطيع أن يركن إلى التفاؤل ويعول عليه، ولا يستطيع أن يصد غوائل التشاؤم.
حين يطالع المرء صحف الصباح فإنه يلحظ هذه الأيام حماسا لإبراز الإنجازات والمشروعات على الصفحات الأولى، خصوصا ما تعلق منها بشق الطرق ومحطات الكهرباء وإقامة العمارات البديلة للعشوائيات، إضافة إلى لقاءات الرئيس مع رؤساء الشركات الصناعية الكبرى التى تعد بضخ المليارات للاستثمار فى مصر. إلى غير ذلك من الخطوات وثيقة الصلة بالتنمية وتحسين الأحوال الاقتصادية والمعيشية. ثم حين يقلب القارئ صفحات الجرائد، فإن عينه تقع فى الصفحات الداخلية على عناوين المحاكمات العسكرية وجلسات الطعن أمام القضاء وأخبار الاعتقالات والمصادرات وشكاوى التعذيب والاختفاء القسرى وأقوال النشطاء المحالين إلى النيابات... إلخ. ولا تفوت المرء ملاحظة ما ينشر عن جهود القوات المسلحة فى مجالات الإعمار وتوفير السلع الاستهلاكية من خلال منافذها وعرباتها المتنقلة، جنبا إلى جنب مع أخبار المحاكمات العسكرية وأحكامها المشددة، التى صارت الإعدامات والمؤبدات من سماتها المميزة.
فى منتصف شهر مايو افتتح الرئيس عبدالفتاح السيسى ٣٠ مشروعا فى مجالات الإسكان والتنمية العمرانية والطرق. ونشرت الصحف فى المناسبة أن الهيئة الهندسية للقوات المسلحة تنفذ فى المرحلة الحالية ١٥٠٠ مشروع، تم إنجاز ٥٠٪ منها، بالإضافة إلى نحو ٢٠٠ مشروع قومى فى مجالات تنموية مختلفة. وفى أوائل مايو عرضت الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان فى تقريرها عن المسار الديمقراطى خلال شهر أبريل الذى تضمن المعلومات التالية: على مدى الشهر تمت ١٨٧ فاعلية للقوى السياسية، تعرضت ١١٦ فاعلية منها للاعتداء من جانب الأجهزة الأمنية ــ وقع ٥٨ اعتداء متنوعا ضد حرية الرأى والتعبير والحريات الإعلامية ــ عن شهر مايو ذكر مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف فى تقريره «أرشيف القهر» أنه وقعت ٢١٢ حالة قتل ــ ١١ وفاة فى أماكن الاحتجاز ــ ١٠٣ حالات تعذيب وسوء معاملة ــ ٩٣ حالة اختفاء قسرى ــ ٨١ حالة ظهور بعد اختفاء. أما موقع «البداية» ــ فقد سجل خلال مايو ١٢٥٨ حكما بالإعدام والحبس أصدرتها المحاكم العسكرية بحق المدنيين الذين كان أغلبهم من محافظات الصعيد.
المقارنة بين المشروعات والحريات تظل لصالح الأولى وخصما من الثانية، الأمر الذى يضعنا فى خانة «التشاؤل» الذى أشرت إليه. الأهم من ذلك أن هذا التباين ليس مصادفة ولكنه يعكس خللا فى الرؤية الاستراتيجية يعطى الأولوية للتنمية الاقتصادية ويرحل أولوية الحرية والديمقراطية. وقبل الاثنين ــ فوقهما إن شئت الدقة ــ يتربع الأمن كأولوية قصوى.
هذه الملاحظة سبق أن سجلها الدكتور زياد بهاء الدين نائب رئيس الوزراء الأسبق فى تعليقه على بيان الحكومة فى مقال نشرته له جريدة «الشروق» فى الخامس من شهر أبريل الماضى. إذ لاحظ أن البرنامج الذى قدم إلى مجلس النواب فى ٢٠٠ صفحة كان محوره البرامج الاقتصادية والاجتماعية والمشروعات القومية والاجتماعية المزمع تنفيذها، التى احتلت ١٥٠ صفحة. أما موضوعات الأمن القومى والديمقراطية فقد شغلت ثلاث صفحات فقط «يغلب عليها الطابع الإنشائى» على حد تعبيره ــ وتفسير الملاحظة الأخيرة أن الأمن القومى شأن السلطة ولا علاقة للمجتمع به، أما الديمقراطية فموضوع مرحل وليس ضمن الأولويات. وقد علق الدكتور زياد على هذه الملاحظة بقوله إنها «تعبير عن أن الحكومة لم تعد معنية إلا بالإدارة الاقتصادية وتقديم الخدمات وتنفيذ المشروعات وليس بمجمل السياسة العامة. وهى رؤية تنطلق من اعتبار الاقتصاد مسألة فنية لا شأن لها بالوضع السياسى. وختم ملاحظته بقوله إن الخروج من أزمة البلد الاقتصادية لا سبيل إلى تحقيقه بمعزل عن توفير الإطار السياسى السليم.
إذا وسعنا الدائرة وتلفتنا حولنا فسنجد أن الحاصل فى مصر نموذج شائع فى الإقليم، يعلى كثيرا من شأن التنمية والخدمات ويعتبرها معيارا للرفاهية والسعادة، لكنه يوصد الباب أمام كل ما يتعلق بالحريات العامة. وتلك مدرسة شعارها «كل وتدلل ولا تتكلم». وهى حالة عبر عنها الشاعر مريد البرغوثى فى قصيدة قال فيها: فى زماننا سمحوا بالركض للكل ــ ونادانا المنادى: اركضوا بالسرعة القصوى كما شئتم.. ولكن فى القفص.
إن كثيرين ينسون أن «القفص» الذى أشار إليه الشاعر هو جوهر المشكلة، وطالما لم يرفع فإن أى جهد يبذل فى مجالى الأمن والاقتصاد سيظل قاصرا ومنقوصا، من ثم فما لم تصحح المعادلة بحيث توضع الحريات ضمن الأولويات فإن الأمن لن يستقر ولن تكتب لعجلة الاقتصاد أن تدور بالكفاءة المرجوة لأن أى عاقل لن يستثمر أمواله فى بلد غير مستقر.
إن النهوض بالمجتمع لا يتحقق بالمشروعات وحدها، لأن كفالة الحريات وحدها هى التى تتيح له أن يتحرك بساقين وليس بساق واحدة. وأرجو ألا أكون بحاجة لشرح المخاطر التى يتعرض لها كل من يصر على المغامرة بالسير بساق واحدة. ذلك أن تقدمه مشكوك فيه وعثراته مقطوع بها.