توقيت القاهرة المحلي 14:27:16 آخر تحديث
  مصر اليوم -

ما وراء الإخفاق فى تحقيق الرفاه والوفاق

  مصر اليوم -

ما وراء الإخفاق فى تحقيق الرفاه والوفاق

بقلم فهمي هويدي

إخفاقنا فى تحقيق أحلام الرفاه والوفاق يفتح ملف الوهن الذى أصابنا جراء الرياح المسمومة التى هبت على الأمة بعدما لاحت بوادر ربيعها.

(١)
صورة الناجين من كارثة السفينة المصرية الغارقة حافلة بالدلالات والإشارات. غرقت السفينة التى حملت أكثر من ٤٥٠ شخصا قبالة مدينة رشيد على الساحل المصرى فى حين كانت حلب تحترق، وتعز تذبح، وليبيا تنتحر، وكأن عالمنا العربى المجنون فى سباق على الموت. اختلفت الأسباب والأقطار وظل الموت واحدا. فتساوى الذين قتلهم الصراع السياسى مع الذين قتلهم الهرب من الفقر والقهر، لكن الصورة المصرية أفصحت عن بعض التفاصيل المميزة. فالأغلبية الساحقة من الشباب دون العشرين، الذين أداروا ظهورهم لنا وقرروا المغامرة والرحيل فى «عام الشباب». لم يصدقوا ما قيل ولم يجدوا أملا يغريهم بالبقاء، ثم إنهم جميعا كانوا من الفقراء الذين استدانوا وحرروا إيصالات «الأمانة» بعدما باع أهلوهم ما يملكون لتدبير نفقات المغامرة. عشرات قدموا من مختلف المحافظات من الغربية والدقهلية والبحيرة وأسيوط والفيوم.. إلخ. كأننا بصدد «منتخب» يمثل شباب مصر. وراء كل واحد منهم قصة مكررة، ظل اليأس والفقر قاسما مشتركا بينها. أغلبهم خاض المغامرة للمرة الأولى، ومنهم من عاودها. إذ فشلوا فى مرات سابقة ثم عادوا أو أعيدوا إلى مصر، إلا أن واقع الفقر ظل أقوى من أن يحتمل، كانوا يعرفون الكثير عن حجم المغامرة ومآلاتها، لكنهم أدركوا أن كل تلك المآلات من السجن أو التشرد والموت أهون من الواقع الذى صاروا إليه. فلا احتملوا عذاب البقاء ولا وجدوا أفقا يمنحهم أملا فى المستقبل.

(٢)
يحتمل المشهد كلاما كثيرا. بدءا من بيان المتحدث العسكرى عن الكيفية التى تم بها «إحباط» محاولة الهجرة وملابسات التأخر فى إنقاذ الركاب وتركهم سبع ساعات يصارعون الموت. والحزن الذى خيم على الفضاء المصرى ولم يجد سوى حزب «الوسط» الذى أعلن الحداد لمدة ثلاثة أيام (حين مات حفيد مبارك أعلن الحداد فى مصر مدة أسبوع)، ثم فى الإجراءات التنفيذية التى اتخذت لرعاية الناجين وحصر الغرقى والحد من الهجرة ومعاقبة السماسرة الذين يتاجرون فيها. وعلى أهمية ما سبق فإن أكثر ما أثار انتباهى كان زيادة أعداد الشبان المهاجرين، (قوانين الاتحاد الأوروبى لا تسمح بإعادة من هم دون الثامنة عشرة إلى بلدانهم)، ثم تلك الإحصائية التى نشرتها جريدة الأهرام (فى ٢٣/٩) وذكرت أن ٧١٪ من الشباب المصرى يحاولون الهجرة غير الشرعية. ونسبتها إلى الدكتورة سميحة نصر من خبراء المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية.

الملاحظ أنه إلى جانب النسبة العالية من الشبان المهاجرين كان بين ركاب السفينة رجال اصطحبوا زوجاتهم وأطفالهم معهم. لم يكن هؤلاء فقراء فقط ولكنهم كانوا يائسين أيضا. فقدوا الثقة فى الحاضر والمستقبل. وتلك ظاهرة جديرة بالرصد فى الواقع المصرى الراهن. ذلك أنه إلى جانب الكلام الكبير الذى يطلقه المسئولون عن المشروعات العملاقة والمستقبل المشرق الذى يلوح فى الأفق البعيد، فإن الرسائل التى تلقاها المجتمع خصوصا هذه الأيام حملت إليهم بشارات مناقضة تماما. فى الأسعار التى أصابها الجنون وفواتير الكهرباء والماء التى صدمت الجميع وقصمت ظهورهم. ذلك إلى جانب الفجوة الحاصلة بين الدخول التى تزداد اتساعا كل حين بين فئات غارقة فى البذخ وأغلبية ساحقة غارقة فى أوحال الفقر. وإذا أضفت إلى ذلك معدلات البطالة التى تتزايد مع استمرار توقف عجلة الإنتاج وموت السياحة التى كان يعيش عليها ثلاثة ملايين شخص، فإننا نجد ألف سبب وسبب لهيمنة اليأس والقنوط وحث الناس على الهروب من سفينة الوطن التى باتت مهددة بالغرق.

لقد كان مهما لا ريب أن تتم مكافحة الهجرة وأن تتخذ التدابير التى تضيق الخناق على الضالعين فيها، إلا أن السؤال الأهم الذى لم ينل حقه من التمحيص والدراسة هو: لماذا تحولت مصر إلى بلد طارد لشبابه الذين باتوا يفضلون التعرض للغرق والموت على البقاء على أرضه؟ ولماذا ازدادت معدلات الهجرة بعد الثورة، وإلى أى مدى أسهمت التطورات اللاحقة فى إشاعة القنوط بين الشباب ودفعهم إلى محاولة الهجرة بأى ثمن؟

(٣)
إذا وسعنا الدائرة وذهبنا إلى أبعد فى التحليل والرصد، فسنجد أن السنوات التى أعقبت ثورة ٢٠١١ بما شهدته من تفاعلات وتجاذبات وتحولات أخفقت فى تحقيق الإنجاز المنشود فى أمرين، أولهما حلم الرفاه وثانيهما أمل الوفاق. والأول عنوان للواقع الاقتصادى والثانى عنوان للواقع السياسى. الأول أسهم فى دفع الشباب إلى الهجرة إلى الخارج والثانى حول المجتمع إلى جزر منفصلة، متنازعة ومتحاربة. ومن ثم تنافست فى المرارة والإحباط سلبيات الواقع الاقتصادى مع سلبيات الواقع السياسى.

مصر التى نعرفها والتى تمنيناها تغيرت. فقد تراجع فيها التسامح والود، وانقسمت بين أشرار وأخيار حينا وبين محظوظين ومنبوذين حينا آخر. وبين مواطنين مميزين من الدرجة الأولى لهم حظهم فى السلطة والثروة وآخرين من الدرجة الثانية يستقبلون ويرسلون ويفوضون وهم فى البيوت قاعدون. ما عاد صدر مصر متسعا لا لأبنائها ولا لجيرانها وأشقائها. وفى حين كانت واحة وملاذا للهاربين من قهر الاستبداد والظلم السياسى والاجتماعى، فإنها أصبحت بالكاد معبرا للهاربين من قهر الفقر ومذلته.

ظلت مصر شقيقة بأمر الجغرفيا والتاريخ، لكنها لم تعد الشقيقة الكبرى، حتى قرأنا فى تحليلات عدة أن قيادة الأمة العربية انعقدت لدول أخرى فى المشرق، وذهب آخرون إلى أن القرار العربى انتقل من دول الماء إلى دول النفط، وسواء لأن الآخرين كبروا ــ ولهم الحق فى ذلك ــ أو لأن مصر انكفأت على ذاتها وانشغلت بصراعاتها الداخلية، فالشاهد أن الفضاء العربى عانى من فراغ مؤرق، فتح الأبواب واسعة للعبث بمقدرات الأمة وقضاياها، كما فتح الباب لصراعات المصالح والمطامع والطوائف.

حين تراجعت موجات رياح الربيع العربى التى أنعشت الطموحات والأحلام، فإن الرياح المعاكسة وزعت المرارات وأيقظت بذور الفتنة وأنعشت الكوابيس، فتراجعت حظوظ الأمة فى مدارج التاريخ وتحولت من بؤرة إشعاع ومحط للأمل إلى مصدر لشقاء العالم المحيط. وبعدما كان تحرير الأمة هدفا وفلسطين قضية مركزية وإسرائيل عدوا استراتيجيا، فإن كل ذلك المعمار انهار. إذ صار أمن الأنظمة بديلا عن تحرير الأمة، وغدت القضية المركزية ساحة للمزايدة والعبث، وأصبحت إيران عدوا وإسرائيل إما صديقا وإما حليفا. بل وأصبحت الجيوش العربية تحارب على جبهات الداخل بأكثر مما تحارب أعداء الخارج.

حين ضعف القلب وأصابه الوهن ضعفت الأمة واستسلمت للقنوط فضلا عن الاكتئاب. وحين حل بها الضعف تنامت فى مفاصلها عناصر التحلل، واستخرج الجسم أسوأ ما فيه.

(٤)
وقعت على مقالة نشرتها صحيفة واشنطن بوست (فى ١٩/٩/٢٠١٦) عن اللوثة التى أصابت الولايات المتحدة جراء الخطاب الذى تبناه المرشح الرئاسى دونالد ترامب، المقالة كتبها سيباسيان مالابى الباحث بمجلس العلاقات الخارجية، وسلط فيها الضوء على مظاهر الفتنة التى أشاعها خطاب ترامب. حين استدعت فى الأمريكيين أسوأ ما فيهم. فروجت لخطاب سام أفسد المزاج الوطنى بدعوته إلى كراهية مواطنيهم وانتقاصه من الأمة الأمريكية وسخريته من التزاماتها الدولية وعلاقاتها مع الاتحاد الأوروبى، وهو بلغته تلك أفقد الأمريكيين تفاؤلهم المميز وشوه من قدرتهم على التعايش فى ظل المشكلات التى تواجه الواقع، حين صور تلك المشكلات بحسبانها عقبات تحول دون تقدم الأمة الأمريكية، وفى ختام انتقاده للخطاب المسموم الذى تبناه ترامب طرح الكاتب على الأمريكيين السؤال التالى: إذا لم تتمكنوا من علاج المشكلات العديدة التى تعانى منها البلاد، فهل تستطيعون على الأقل إعادة اكتشاف موهبتهم القديمة فى التعايش معا تعايشا بهيجا.

لا أخفى أننى حين قرأت المقال مرة واثنتين استحضرت واقعا، إذ وجدت التحليل مهما والسؤال وجيها، ذلك أننا لا نستطيع أن ننكر أن الرياح المسمومة التى هبت على مصر والعالم العربى أحدثت فيه ما أحدثته من تشوهات واستدعت ما نعرف من المرارات والفتن. الأمر الذى يسوغ لى أن أعيد صياغة السؤال الذى طرحه الكاتب فى مقال واشنطن بوست بحيث يصبح كالتالى: كيف يمكن أن نتعامل مع مشكلاتنا بصورة تعيد إلى واقعنا زمن التعايش البهيج الذى عرفناه حين كنا أمة واحدة، يراودها حلم التحرير والنهضة؟
ردى على السؤال أن ذلك ممكن لا ريب، فى حالة واحدة تتمثل فى إدراكنا حقيقة أن مصر هى المشكلة وهى الحل.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ما وراء الإخفاق فى تحقيق الرفاه والوفاق ما وراء الإخفاق فى تحقيق الرفاه والوفاق



GMT 12:48 2016 الأحد ,11 كانون الأول / ديسمبر

بشرى للاعبين المحليين

GMT 14:24 2016 الجمعة ,09 كانون الأول / ديسمبر

هل الكتابة خدعة؟

GMT 14:23 2016 الأربعاء ,07 كانون الأول / ديسمبر

أحرجتنا ماليزيا

GMT 11:38 2016 الثلاثاء ,06 كانون الأول / ديسمبر

الإصلاح السياسى مقدم على الإصلاح الدينى

GMT 12:04 2016 الخميس ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

التغريبة الثالثة

تارا عماد بإطلالات عصرية تلهم طويلات القامة العاشقات للموضة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 00:04 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

حسين فهمي يعرب عن دعمه للأفلام الفلسطينية واللبنانية
  مصر اليوم - حسين فهمي يعرب عن دعمه للأفلام الفلسطينية واللبنانية

GMT 08:11 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

هيفاء وهبي بإطلالات متنوعة ومبدعة تخطف الأنظار

GMT 15:47 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 15:45 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2018 الإثنين ,16 إبريل / نيسان

المدرب الإسباني أوناي إيمري يغازل بيته القديم

GMT 01:04 2021 السبت ,25 كانون الأول / ديسمبر

جالاتا سراي التركي يفعل عقد مصطفى محمد من الزمالك

GMT 05:34 2021 السبت ,13 شباط / فبراير

تعرف على السيرة الذاتية للمصرية دينا داش

GMT 20:42 2021 الخميس ,21 كانون الثاني / يناير

طريقة عمل جاتوه خطوة بخطوة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon