فهمي هويدي
(١)
حيث نشرت صحيفة «الحياة» اللندنية على صفحتها الأولى صورة مكبرة لسحل شاب من داعش فى مدينة كركوك من خلال ربطه بحبل تدلى من مؤخرة سيارة دفع رباعى، فإن رسالة الصورة التى يقشعر لها البدن حملت إلينا «عينة» من إرهاصات الهول القادم فى شمال العراق. إذ رغم فداحة المنظر ووحشيته فإن جمهور الواقفين فى الشارع تعاملوا معه باعتباره حدثا عاديا ومألوفا، وهم معذورون فى ذلك، ليس فقط لأن لجماعة داعش سبقها فى ارتكاب مثل هذه الجرائم، ولكن أيضا لأن السحل له تاريخ عريق تتفرد به العراق (سابق على سحل الأمويين فى البصرة). لذلك فإن جميع المتقاتلين يمارسونه بغير استثناء. لم يكن ذلك فقط ما أثار الانتباه، فيما نشرته الصحيفة اللندنية يوم ٢٦ أكتوبر، لأننى لاحظت أن عناوين الصفحة الأولى تحدثت عما يجرى فى الموصل، فى حين أن السحل كان فى مدينة أخرى هى كركوك. وفى حين أن العنوان الرئيسى تحدث عن «مجازر داعشية فى الموصل.. وسحل مدنيين وإلقاء جثث فى بحيرة»، فإن الشخص المسحول فى كركوك كان ينتمى إلى داعش وأن السيارة التى جرته كانت تابعة للبشمركة الكردية.
اللقطة معبرة وكاشفة لأحد مشاهد تعقيد الاقتتال العبثى والمجنون الدائر فى شمال العراق وسوريا، إذ تتداخل فيه صراعات السنة والشيعة والأكراد والعرب والعراق وتركيا وصراع الجميع ضد داعش المنسوب إلى تنظيم الدولة الإسلامية. أعنى أن الجميع يحتشدون ضد داعش حقا، لكن اقتتالهم فيما بينهم مستمر أيضا، ولا يقل ضراوة. الأمر الذى يعنى أن الخلاص من التنظيم الذى يجرى الاحتشاد لأجله الآن لن يحل المشكلة، لأن ما بعده يمثل طورا جديدا فى الصراع سواء فى العراق أو سوريا.
(٢)
أفول داعش يمر الآن بفصله الأخير. والحاصل الآن حول الموصل إذا حقق هدفه. سيكون بداية النهاية. ذلك أن الموصل كانت الجائزة الكبرى التى اختطفها داعش فى ظروف غامضة ومريبة فى عام ٢٠١٤، وحولها بعد ذلك إلى قاعدة أساسية له مستفيدا من ظروف خاصة بالمدينة سنعرضها بعد قليل، حتى أزعم أنها من الناحية الاستراتيجية تعد أكثر أهمية من «الرقة» التى صارت عاصمة دولة الخلافة فى الأراضى السورية، وبسبب تلك الأهمية فإن وجود داعش فى الموصل يعد مسألة حياة أو موت بالنسبة للتنظيم، ولهذا السبب فإنهم سوف يدافعون عن وجودهم فيها حتى آخر رمق، إذ فضلا عن ثرائها التاريخى والنفطى والتجارى فاسمها مستمد من كونها المكان الذى يصل فيه كل شىء. التجارة والمعاشرة والبيع كما تقول المراجع التاريخية. إذ هى تصل بين ضفتى نهر دجلة وبين الجزيرة والعراق، وبين دجلة والفرات، وهى فى نقطة وسط بين إيران وتركيا، وبها يمر الطريق إلى حلب فى الشمال السورى، وبسبب كونها مركز محافظة نينوى التى يمتد تاريخها إلى ما قبل العصر الحجرى، فقد حرصت القوى الكبرى فى المنطقة إلى الاستئثار بها. من الرومان إلى الفرس والعثمانيين إذ ظلت تحت الحكم العثمانى أكثر من أربعة قرون (من ١٥٣٤ حتى ١٩١٦) وبعدما تنافس عليها الفرنسيون والبريطانيون (بعد ظهور النفط فيها) قررت الأمم المتحدة ضمها إلى العراق عام ١٩٢٥.
التركيبة السكانية للموصل أحد مصادر المشكلات التى تعانى منها، فسكانها البالغ عددهم ٢ مليون شخص أغلبهم من العرب والتركمان السنة والباقون أقليات يمثلون خليطا من الأكراد والمسيحيين بطوائفهم المختلفة إلى جانب الشبك (فرقة أقرب إلى الشيعة) والصابئة واليزيديين.
حين انفرط عقد العراق وبرزت التمايزات المذهبية والعرقية، هبت رياح التنازع والفرقة على الموصل، فطمع فيها الشيعة والأكراد، الأمر الذى استفز أغلبيتها السنية، خصوصا أن الشيعة أصبحوا فى السلطة ببغداد وأن التحالف الكردستانى أعان القوات الأمريكية على احتلال المدينة فى عام ٢٠٠٣ بعد سقوط الرئيس صدام حسين. إذ اعتبر سكانها من أهل السنة الموالين للنظام السابق.
بسبب ظهور الصراعات الطائفية بين الشيعة والسنة، وجد تنظيم القاعدة أرضا خصبة له فى الموصل. وكانت تلك خلفية. ساعدت على التجاوب مع داعش الذى ورث تنظيم القاعدة ــ ساعد على ذلك أن ميليشيات الحشد الشعبى الشيعية مارست العديد من الانتهاكات بحق أهل السنة وعملت على تهجيرهم من بعض مدنهم مثل تكريت والفلوجة والرمادى، وهو ما دفع بعض عشائر الموصل إلى اعتبار وجود داعش فى مدينتهم حماية لهم تؤمنهم ضد انتهاكات الجيش الشعبى وفظائعه التى روعت قطاعات عريضة من أهل السنة. إذ رغم ما اتسم به حكم داعش للمدينة من قسوة وتعنت واستبداد، فإن ذلك ظل أقل سوءا من فظائع الجيش الشعبى التى توعدوا بها أهالى الموصل، خصوصا أن أحد قادتهم قال فى تصريح شهير تناقلته وكالات الأنباء ذكر فيه أنهم ذاهبون لتحرير الموصل من داعش والانتقام من قتلة الحسين!
(٣)
فى الوقت الراهن تحتشد لتحرير الموصل من سيطرة داعش الأطراف التالية: التحالف الدولى بقيادة الولايات المتحدة ــ الجيش العراقى ــ ميليشيات الحشد الشعبى ــ قوات تابعة للجيش التركى ــ التحالف الكردستانى ــ الجيش الوطنى الذى يضم متطوعين من العرب السنة وحشودا من هذا القبيل تملك سيطرة كاملة على الجو إضافة إلى قدراتها العسكرية على الأرض، بمقدورها أن تنزل هزيمة ساحقة بقوات داعش الموجودة داخل الموصل أيا كان عددها.
لكن الأمر دونه عقبات جسيمة وله تكلفته الباهظة، ذلك أن المدينة التى كان سكانها نحو مليونى نسمة، هاجرت منها أعداد غفيرة لا تقل عن نصف مليون نسمة أغلبهم يمثلون الأقليات التى يعاديها داعش، وهو ما يعنى أنه لا يزال يعيش فيها مليون ونصف المليون مواطن. تنتشر عناصر داعش فى تجمعاتهم منذ أكثر من سنتين. وانتشار الدواعش وسط التجمعات البشرية لأهل الموصل يمثل مشكلة كبرى، وكما كان متوقعا فإن الدواعش استدعوا آلافا من سكان القرى المحيطة لاستخدامهم كدروع بشرية يحتمون بها فى مواجهة القوات الزاحفة عليهم من كل صوب. فى الوقت ذاته فإنهم أحاطوا الموقع بالسراديب والبيوت المفخخة لتعويق تقدم تلك القوات.
الالتحام الحقيقى لم يحدث بعد، ولكن المناوشات مستمرة والتقدم البطىء نحو المدينة يتحرك، ولا يخلو الأمر من كر وفر على هذه الجبهة وتلك. وتتفق التقارير الصحفية على أمرين، الأول أن احتماء عناصر داعش بسكان المدينة هو الذى أخر الهجوم عليها واجتياحها. الثانى أن حجم الدمار والضحايا سيكون هائلا فى كل الأحوال. حتى قرأت فى أحد التقارير قول أحد كبار الضباط الأمريكيين أنه كما حدث فى فيتنام فإن إنقاذ الموصل من أيدى داعش لن يتم إلا بعد تدميرها.
إذا وضعت فى الاعتبار أن نسبة ليست قليلة من عناصر داعش من الانتحاريين، فسوف تدرك أن القتال لن يكون سهلا، وإنما سيظل شرسا وقد يدور بين كل بيت وبيت. الأمر الذى لابد أن يوقع أعدادا هائلة من الضحايا على الجانبين. ناهيك عن أن أحدا لا يعرف على وجه الدقة طبيعة الأسلحة غير المشروعة التى لدى الطرفين. وهو ما يفتح الباب لاحتمال استخدام السلاح الكيماوى، وكانت صحيفة التايمز البريطانية قد ذكرت فى تقرير نشرته الأسبوع الماضى أنه تم استخدام الفوسفور الأبيض فى معارك تحرير بعض القرى التى تدخل فى نطاق الموصل.
هذا «السيناريو» يبرر وصف ما ينتظر الموصل بأنه من قبيل الهول الذى لا مفر منه.
(٤)
مشكلة اليوم التالى لتحرير الموصل أكثر تعقيدا، لأن العرب لن يقبلوا بسيطرة الأكراد والسنة لن يقبلوا بهيمنة الشيعة، وحكومة العراق لن تسمح بتواجد الجيش التركى، وتركيا ستصر على قطع الطريق على تطلعات إيران التى تقف وراء الحشد الشعبى، وإزاء هذه التباينات فإن التوافق على كيفية إدارة الموصل سيصبح أمرا صعبا. وقد يؤدى إلى تجديد الصراع المسلح خصوصا فى ظل استقواء ميليشيات الحشد الشعبى واعتمادها على المساندة الإيرانية وتأييد حكومة بغداد والجناح المتطرف فى السلطة الشيعية.
قرأت تحليلا نشرته جريدة الشرق الأوسط فى ١٠/١٩ للكاتب اللبنانى مصطفى فحص حذر من تحول الخلاص من داعش فى الموصل إلى كابوس، حيث يؤدى إلى إخلاء الموصل من أهلها فى إطار سياسة تهجير منظم تنفذها ميليشيات مرتبطة بالحرس الثورى الإيرانى الطامح إلى تأمين ممرات برية بين إيران وسوريا عبر شمال العراق، وهذه تؤمن لعدده وعتاده عبورا آمنا إلى الشمال السورى وصولا إلى مدينة حلب، وهو ما استفز الرئيس التركى رجب طيب أردوغان ودفعه إلى رفع مستوى التحدى فى تصريحاته، حيث أكد أن قواته ستشارك فى معركة تحرير الموصل «شاءوا أم أبوا».
فى تحليل آخر نشرته صحيفة «ينى شفق» التركية لرئيس تحريرها إبراهيم قرة غول قال فيه إن الخط الرابط بين الموصل وحلب بات خط الدفاع الجديد لتركيا. لذلك لا مناص من هيمنة أمنية وعسكرية تركية هناك. وثمة من يحاول رسم خريطته الخاصة لإزعاج تركيا فى كركوك والموصل وحلب. لذلك حرى بتركيا أن تتحرك وتتدخل فى حملة استباقية لإجهاض تلك السيناريوهات. وإذ انتزعت مناطق شمال الموصل وحلب فى سوريا والعراق فعلى تركيا أن تتحرك لضمان مصالحها هناك.
استوقفنى فى الأصداء ما نشرته صحيفة «هاآرتس» للكاتب عاموس هرئيل فى ١٠/١٨، إذ ذكر أن ما يجرى فى الموصل نموذج لمعارك المستقبل فى الشرق الأوسط التى ستؤدى إلى اشتباكات فى المناطق المأهولة بالسكان. الذين سيعلقون بين الأطراف المتحاربة، وهو درس ينبغى أن تستفيد منه إسرائيل فى حروبها القادمة فى المناطق المكتظة فى غزة وجنوب لبنان.
إن رسم الخرائط الجديدة مستمر حولنا، ونحن جميعا نقف متفرجين. هل ننتظر حتى تطرق أبوابنا؟!