فهمي هويدي
أهم رسالة موجهة إلى الداخل المصرى فى الوقت الراهن هى أن البلد مقبل على مرحلة صعبة، تفرض على السلطة اتخاذ عدة إجراءات اقتصادية قاسية، وتستدعى من المواطنين تفهما وتجاوبا وصبرا. الخبر ليس جديدا، لأن الناس يعيشون الأزمة الاقتصادية بمختلف تجلياتها، لكن الجديد هو الجهر بحقيقتها بعد استحكامها وبلوغها مرحلة الخطر. وليس سرا أن السلطة المصرية ظلت معلقة الأبصار بالخارج طوال السنوات الأخيرة، ولأن صبر الخارج كاد يضيق بحمل العبء، خصوصا بعد تراجع أسعار النفط، فلم يكن هناك مفر من مخاطبة الداخل بتلك اللغة التى لمسناها فى تصريحات المسئولين أخيرا. ولأن عطاء الخارج كان ولايزال يتمثل فى مساعدات الدول النفطية إلى جانب المنظمات الدولية وعلى رأسها صندوق النقد الدولى، فإن أحدا لا يستطيع أن ينكر أن اليد العليا أصبحت من نصيب تلك الجهات. وأن مصر المأزومة صارت صاحبة اليد السفلى. ويعذر الطرف الأول (الأقوى) إن هو فرض شروطه، أما الطرف الثانى (المضطر) فيفهم موقفه إذا ما كان غاية مراده أن يحافظ على ورقة التوت التى تستر عورته متمنيا أن يبقى لنفسه على الحد الأدنى من الكرامة. أما الطرف الثالث المتمثل فى المجتمع المصرى فإنه وحده الذى سيدفع الثمن فى نهاية المطاف.
لدى حزمة من الملاحظات فى هذا الصدد، بعضها يتعلق بخطاب السلطة والبعض الآخر يخص أداءها. إذ ليس دقيقا ولا مستساغا أن يمهد بعض المسئولين للقرارات الصعبة بقولهم إن الدولة لن تقدم خدمة بالمجان، لأن الحكومة لا توفر المصروفات من جيوب أعضائها، ولكن أموالها هى حصيلة الضرائب التى يدفعها الناس أو الموارد التى هى ملك للمجتمع. والقصور فى الموازنة يحسب على السلطة التى قصرت فى جباية الضرائب أو أساءت استثمار الموارد والسياسات. وفى هذه الحالة فإن اللوم ينبغى أن يوجه للسلطة التى لا يحق لها أن تتهم المجتمع أو تمن عليه. حتى ما يبدو أنه مجانى فإن الحكومة تعاملت معه بازدراء شديد. حمل الناس أضعاف أضعاف التكلفة الحقيقية للخدمة. والنموذج واضح وفادح فى التعليم الذى يفترض أنه مجانى، لكن التعليم الحقيقى صار يتم خارج المدارس وليس فى فصولها فضلا عن أن تكلفته أصبحت ترهق الأغلبية الساحقة.
بذات القدر فليس صحيحا ما يروج له المسئولون عن أن الفقراء ومتوسطى الحال لن يتأثروا بإجراءات زيادة الأسعار، لأن هؤلاء هم أكثر الذين يعانون هذه السياسة. ذلك أن الزيادات فى بعض السلع تحقق دفعة للغلاء تتجاوز بكثير حدود المستهدفين فى البيانات الإعلامية.
من ناحية ثالثة فإن استسهال مد أيدى الحكومة إلى جيوب الناس للتفتيش فيها عندما تحل أى أزمة أصبح سياسة تقليدية عفا عليها الزمن، وحكاية رفع الأسعار لمواجهة كل أزمة ينطبق عليها الكلام ذاته. لأن الجهد الحقيقى يختبر حين تبذل الحكومة جهدها لتحريك عجلة الإنتاج وحث القوى الحية فى المجتمع لكى تعمل وتبدع كى توفر حاجياتها. وتشجعه على التصدير. وإذا شئنا أن نتصارح فى هذا الصدد فينبغى أن نعترف بأن تأثرنا بثقافة اليد السفلى بات أقوى بكثير من تعلقنا بسياسات وقيم اليد العليا.
إذا مضينا خطوة أبعد فى المصارحة، فينبغى أن نعترف أيضا بأن الخطاب السياسى فى مصر لم يختلف فى بعض جوانبه عن خطاب الستينيات التى أقنع المجتمع خلالها بأن الدولة ستقوم بكل شىء، متأثرة فى ذلك بنزعتها الاشتراكية. وهو ما فعلته السلطة فى الوقت الراهن حين صورت للمجتمع أن القوات المسلحة ستتحمل العبء وستقوم بكل ما يلزم، من توفير الأمن على الحدود إلى توفير السلع فى الأسواق والمجمعات. وهو ما قد يصلح فى مواجهة حالة استثنائية، لكننا اكتشفنا بمضى الوقت أن هذا السلوك لا يصلح نموذجا لإدارة السياسة الاقتصادية.
الملاحظات التى تتعلق بالأداء عديدة ويمكن تلخيص أهمها فيما يلى:
< أن التجربة أثبتت أن الإصلاح الاقتصادى لا يتحقق إلا فى ظل الإصلاح السياسى. بل إن الإصلاح الأخير هو الأصل الذى بدونه يتعثر أى إصلاح اقتصادى. ذلك أن عجلة الإنتاج لن تتحرك والمستثمرين لن يدخلوا السوق المصرية مادام الخطاب الرسمى يتحدث عن معركة مفتوحة ضد الإرهاب مستمرة طوال السنوات الثلاث الأخيرة، ومادام تقييد الحريات وانتهاكات حقوق الإنسان مستمرة.
< أن الحكومة لا تستأسد على المجتمع فى سياستها فحسب، ولكنها لا تقدم له النموذج واجب الاحتذاء فى ترشيد الإنفاق. فنحن نرى تقتيرا فى بعض أنشطة خدمة المجتمع، وبذخا مشهودا فى الإنفاق على المؤسسات السيادية. كما أننا نرى شحا فى الاستجابة للمطالب المعيشية لبعض الفئات، وإنفاقا بلا حساب على فئات أخرى.
< إننا نفهم أن أى فريق عمل، حتى إذا كان فريقا لكرة القدم، إذا تكرر فشله فى تحقيق النتائج المرجوة، فإن تغييرا ينبغى أن يطرأ على إدارته أو «لاعبيه»، وفى المعادلة المستقرة التى تقول إن الفشل إذا تكرر، فأنت لا تستطيع أن تحصل على نتائج مغايرة إلا إذا غيرت الفريق الذى يدير العملية. حيث لا تتوقع نتائج أفضل من جانب ذات الفريق الذى ثبت فشله. وإذا حاولنا تنزيل هذه الفكرة على الواقع الاقتصادى فإن ذلك يدعونا إلى طرح السؤال التالى: بعد الذى جرى، ألا يحفزنا ما جرى إلى تغيير السياسات وتغيير الفريق الذى يقررها؟