بقلم فهمي هويدي
هل صحيح أن الكتابة خدعة كما هو الحال فى الحرب؟ فى رأى الدكتور جلال أمين أنها كذلك فعلا، وهو ما أورده فى مقالة نشرتها له جريدة الأهرام (عدد ٥/١٢) كان عنوانها: «الحرب خدعة وكذلك الكتابة». وفى دفاعه عن وجهة نظره فإنه عرض مجموعة من الشواهد والقرائن التى تثبت كيف يحتال بعض الكتاب لتسويق أنفسهم وتلميعها، ثم خلص فى النهاية إلى أن الخداع لا يقتصر على الحرب والكتابة، لأنه فى كل علاقة اجتماعية مجال محتمل للخديعة، «لكن الخداع فى الكتابة أثقل على القلب منه فى أشياء أخرى، لأننا فى الكتابة نفترض وجود التزام أخلاقى فى أكثر مما نفترض فى غيرها من أوجه السلوك الاجتماعى وهو السبب نفسه الذى يجعلنا نستهجن الخداع فى مهنة الطب أو المحاماة أو فى الخطاب الدينى، أكثر مما نستهجنه فى الرعاية الفكرية أو السياسية».
ما كتب الدكتور جلال يستحق المناقشة من أكثر من وجه، لكنه لا يخلو من مفارقة. لأن ما يكتبه هو يكتسب جاذبية ليس فقط بما فيه من براعة وتشويق ولكن أيضا مما فيه من صدق. تجلى ذلك الصدق فى كتابه «ماذا حدث للمصريين»، كما تجلى بصورة أبعد فى كتابه «ماذا علمتنى الحياة»، حتى أزعم أنه فى كتابه الأخير بالغ فى صدقه لدرجة أنه ذكر فيه عن أبيه ما كنت أفضل تجنبه والسكوت عنه. لذلك فلو أنه قال إن «بعض» الكتابة خدعة لوافقته بلا تردد. لكنه حين ساوى بين الحرب والكتابة فإنه اضطرنى إلى الاختلاف معه. ذلك أن الخدعة أصل فى الحرب كما أنها تحسب للمحارب وتعد فضيلة تعبر عن ذكائه وكفاءته. أما الخدعة فى الكتابة التى تستهدف تضليل القارئ فهى استثناء. وهى رذيلة تحسب على الكاتب، وتفضح عجزه وفقره الفكرى. وإذا كان النجاح فى الحرب يقاس بمعيار قدرة المحارب على الخديعة واخفائه مخططاته، إلا أن النجاح فى الكتابة يقاس بمعيار شجاعة الكاتب فى كشف الحقيقة وفضحها أمام الرأى العام.
الاحتيال فى الكتابة صنفان، أحدهما مرذول والآخر مبرر ومقبول. الأول يتطوع به المرء لتضليل القارئ وإيهامه بغير الحقيقة. أما الثانى فهو ما يضطر إليه الكاتب فى أجواء التضييق على الحريات، وهذا الاحتيال الأخير له صور شتى، منها التلميح دون التصريح، ومنها ذكر جزء من الحقيقة وليس كلها، ومنها الاستشهاد بحقائق الدول الأخرى المشابهة للفت الانتباه إلى ما هو حاصل فى الداخل، وكان الأستاذ أحمد بهاء الدين أستاذا فى تسجيل اعتراضه على ما لا يقتنع به. ذلك أنه كان يقول دائما إن الرأى يمكن التعبير عنه بالعديد من العبارات التى لا ينتبه إليها من يراقب ويتصيد. حتى إنه حين كان يريد تسجيل اعتراضه على بعض الأحداث المهمة، فإنه كان يتعمد تجاهلها والكتابة خارج الموضوع كالحديث عن الطقس أو «باروكات» المذيعات، وهو ما كان يغضب الرئيس السادات كثيرا على ما سمعت من الأستاذ هيكل أكثر من مرة.
الدكتور جلال أمين أدان الكتاب الذين يخدعون الناس، ولم يذكر أن وعى القراء تزايد بحيث أصبحوا يميزون بين الصادق وبين المخادع والكذوب. وقد تمنيت أن يدين بنفس القدر تراجع هامش الحريات الذى يحتفى بالكتاب المخادعين ويضطر الصادقين والكتاب الحقيقيين إما إلى الاحتيال والحذر فى التعبير عن الحقيقة، أو إلى الاختيار بين الهجرة إلى الخارج أو إيثار الصمت والاختفاء.
نقطة أخرى مهمة أثارها الدكتور جلال أمين متعلقة بالالتزام الأخلاقى المفترض سواء فى الصحفيين أو غيرهم من المهنيين، ذلك أننا ينبغى أن نعترف بالتراجع المشهود فى منظومة القيم الأخلاقية السائدة فى تلك القطاعات. وهو ما اتفق معه فيها، ويحتاج إلى دراسة وتحليل. ذلك أننا بصدد أوضاع ضاغطة استخرجت من الناس أسوأ ما فيهم، الأمر الذى أتمنى أن يسهم الدكتور أمين فى استجلائه فى نطاق بحثه الدءوب فى التعرف عما جرى للمصريين.