بقلم فهمي هويدي
ما حدث فى نقابة الصحفيين المصريين يصدمنا ويدهشنا. يصدمنا لأنه عمل غير مسبوق، لم تتعرض له النقابة منذ إنشائها قبل ٧٥ عاما. ويدهشنا لأنه لم يكن له ما يبرره، والإساءة فيه للنظام والمجتمع بمثل جسامة العدوان الذى حدث على النقابة. وذلك منطوق يحتاج إلى بعض التفصيل.
قبل التفصيل أنبه إلى أننا لسنا بصدد مشكلة تخص الصحفيين وحدهم. ومن التبسيط الشديد أن يقال إن هؤلاء يسعون إلى التميز أو أن على رأسهم ريشة كما يقال.. ومن السخف أن يقول قائل بأن الصحفيين يتطلعون إلى استصدار قانون يعاقب كل من يدوس لهم على طرف ويحظر ازدراءهم. ذلك أن ما جرى يعد نموذجا لاستباحة الحرمات والكرامات الذى دأبت عليه الأجهزة الأمنية، بعدما باتت تتصرف وكأنها فوق القانون وفوق المساءلة والحساب.
لا أعرف من اتخذ قرار الاقتحام وتذاكى لكى يقوم به فى يوم عطلة، لكى يبدو وكأن الجميع فى إجازة وأنه من المتعذر الاتصال بأى مسئول فى النقابة، فى التفاف على نص القانون الذى يحظر تفتيش المقر إلا بمعرفة أحد أعضاء النيابة وبحضور نقيب الصحفيين. لكن الذى أعرفه أن ما جرى نموذج للاستهتار الذى تمارسه بعض الأجهزة الأمنية. التى لم تعد تبالى بكرامات الناس ولا بحرماتهم وفى بعض الأحيان لا يبالى بعض عناصرها بحق الآخرين فى الحياة. ومنشورة على صفحات الصحف قصص الأفراد الذين قتلهم بعض رجال الشرطة لأسباب تافهة تراوحت بين ثمن كوب شاى أو مزاحمة فى الطريق العام. حتى اعتبرنا أطباء مستشفى المطرية محظوظين لأنهم سحلوا وتعرضوا للضرب فقط على أيدى بعض أمناء الشرطة ولم يتعرضوا لما هو أسوأ من ذلك!
إن أى نقابة هى بيت أعضائها والمنتسبين إلى المهنة، ويفترض فى هذه الحالة أن تحظى بحصانة أدبية تحفظ لها مكانتها ودورها، وعند أهل الرشد والعقل فإن من دخل النقابة يفترض أنه أصبح آمنا. ليس لأنها مكان استثنائى، ولكن لأن النقابات ضمن مؤسسات المجتمع المدنى التى ينبغى أن تحظى بالاحترام والهيبة، شأنها شأن مؤسسات المجتمع الأخرى. واقتحام الشرطة للنقابة لأى سبب يعد إهانة لها وإهدارا لقيمة مهمة من قيم المجتمع المدنى.
وإذا افترضنا جدلا أن المعتصم بالنقابة مطلوب للعدالة لأى سبب فتنفيذ أمر القبض والإحضار لا يجادل أحد فى وجوبه، ولكن لذلك أسلوب واجب الاتباع ولابد أن يكون للنقيب دور فيه. وهذا الذى أذكره ليس ابتداعا ولا هو اختراع ولكنه يمثل الحد الأدنى الذى يتعين الالتزام به لاحترام مؤسسات المجتمع المدنى، لذلك فإن غيرته ليست على النقابة وحدها ولكنها أيضا وبدرجة أكبر على المجتمع المدنى ككل.
جرأة الأجهزة الأمنية على اقتحام مقر نقابة الصحفيين تعبير عن عمق الأزمة التى نواجهها، والتى باتت تتمثل فى الفجوة المتنامية بين السلطة والمجتمع. وكنت قد ذكرت فى مقام سابق أن المصالحة الواجبة والمطلوبة بإلحاح ليست تلك التى تثار فى صدد العلاقة بين السلطة والإخوان، لأن المشكلة لها بعد أخطر لأنها باتت تخيم بشدة على علاقة السلطة بالمجتمع.
وذلك ينقلنا إلى الشق الآخر فى الأزمة التى قلت إنها تصدمنا كما أنها تدهشنا. إذ لا يستطع المرء أن يخفى دهشته إزاء ذلك الخلل الجسيم فى الحسابات، الذى يجعل الداخلية تقتحم النقابة لتلقى القبض على اثنين من الصحفيين فى حين أن الأمر يمكن تحقيقه بوسائل أخرى. وتتضاعف الدهشة إذا علمنا أن الاتصالات كانت قد بدأت بين نقيب الصحفيين وبين مسئولى الداخلية قبل الاقتحام ولكن جهة أمنية ما قررت إجراء الاقتحام قبل أن تتوصل الاتصالات إلى شىء وقبل التأكد من فشلها، وهو ما يحيرنا ويدعونا إلى التساؤل عن أسباب التسرع فى الاقتحام. وفى هذه الحالة فإن المرء لا يستطيع أن يستبعد الإصرار على القمع وتوجيه رسالة «تأديب» إلى الجميع تحذرهم من مغبة معارضة السلطة أو التمرد عليها، وإذا صح ذلك فإنه يغدو تأكيدا لغضب السلطة ودعوتها إلى وقف الاحتجاجات المفترضة، ثم أثبتت الأيام أنه كان صحيحا وأن التوجيه نفذ بمنتهى الشدة والحزم.
تلاحقنا الدهشة أيضا حين نلاحظ أن اقتحام النقابة حدث فى توقيت يتصاعد فيه مؤشر الغضب فى مصر، سواء بسبب ضيق الناس بارتفاع الأسعار أو فجيعتهم إزاء أداء البرلمان، أو بسبب حملة السلطة على منظمات المجتمع المدنى، أو التوسع فى المحاكمات العسكرية، وتزايد انتهاكات الأجهزة الأمنية، وصولا إلى ردود الأفعال السلبية التى ترتبت على موضوع الجزيرتين... إلخ. إذ حين تقتحم النقابة فى هذه الأجواء وتفتح معركة جديدة مع جموع الصحفيين الذين تلقوا الصفعة واستشعروا الإهانة، فمعنى ذلك أن ثمة خللا فى آلية إصدار القرار جعلته يسهم فى تأجيج الغضب وتعميق الفجوة بين السلطة والمجتمع. لنا كلام آخر فى الموضوع غدا بإذن الله.