بقلم فهمي هويدي
يُخطئ من يتصور أن الجدل الدائر فى مصر حول تدخل الجيش فى الاقتصاد أو فى غيره من مجالات الخدمة المدنية يمثل نقدا للجيش أو غمزا فى دوره. وهى الحجة التى يسوقها البعض لمصادرة المناقشة وإغلاق بابها، لأنها تطرح على المتحاورين السؤال الغلط الذى يخيرهم بين أن يكونوا مع الجيش أو ضده. وتلك صيغة ماكرة لوضع أحد أطراف المناقشة فى المربع الغلط، بالتشكيك فى موقفه وتوجيه بلاغ مضمر ضده للأجهزة الأمنية التى تتولى اتخاذ «ما يلزم» لحسم الحوار بأساليبها المعروفة. ذلك أن الجوهر الحقيقى للمناقشة هو كيف يمكن التوفيق بين المسئوليات العارضة (التى تحملها القوات المسلحة) فى الداخل، وبين مسئولياتها الأصلية والكبيرة فى الدفاع عن الوطن. وكيف السبيل إلى الحفاظ على مكانة القوات المسلحة ودورها فى حماية الوطن والدفاع عن كرامته. والجملتان الأخيرتان أوردتهما نصا فى مقالى الأخير الذى نشر يوم الثلاثاء ٦ سبتمبر، الذى سجلت فيه بعض التحفظات التى أبداها غيرى ــ وتضامنت معها ــ على فكرة عسكرة الاقتصاد فضلا عن السياسة فى مصر. وحرصت على أن أستشهد فيه بآراء بعض أهل الموالاة ممن كانوا فى قلب التغيير الذى أسهم فيه اسمى بائتلاف ٣٠ يونيو.
الفكرة التى طرحتها مع غيرى تنصب على الرؤية السياسية وليست على القوات المسلحة، كما أنها ليست جديدة تماما، لأن الجدل حول الموضوع أثير عقب «نكسة» يونيو ١٩٦٧. وفى ثنايا مناقشة الأسباب التى أدت إلى الهزيمة، ولدى شهادتان ثمينتان فى هذا الصدد إحداهما للفريق أول محمد فوزى رئيس أركان حرب القوات المسلحة ووزير الدفاع والمشير عبدالغنى الجمسى رئيس الأركان الذى صار لاحقا نائبا لرئيس الوزراء. وقد أوردهما المشير الجمسى فى مذكراته. التى طبعتها هيئة الكتاب مرتين فى عام ١٩٧٩ وأهمية الشهادتين تكمن فى أنهما صادرتان عن اثنين من القامات الرفيعة فى التاريخ العسكرى المصرى، ولا يستطيع ــ ولا يجرؤ ــ أحد على أن يتساءل عما إذا كانا مع الجيش أو ضده.
نقل المشير الجمسى عن الفريق فوزى فى شهادته أمام لجنة التاريخ ــ بعد الهزيمة ــ أن من أسباب النكسة «دخول القوات المسلحة فى الإصلاح الزراعى والإسكان والنقل الداخلى وأعمال مباحث أمن الدولة والسد العالى وأشياء أخرى كثيرة. وكان للقوات المسلحة مندوبون فى هذه الجهات يمثلون القمة، أى يمثلون المشير عامر وشمس بدران.. ويهمنى فى هذه النقطة من الناحية التاريخية القول بأن انتشار سلطة القوات المسلحة فى مختلف نشاطات الدولة أخرجها أو قلل اهتمامها بمسئولياتها الأساسية، وهى إعداد القوات المسلحة للقتال»، (ص١٣٢).
فى حديثه عن إعادة بناء القوات المسلحة بعد الهزيمة، ذكر المشير الجمسى فى شهادته ما يلى: كانت الخطوة الرئيسية الثالثة لإعادة البناء هى إبعاد قواتنا المسلحة عن كل عمل مدنى سبق تكليفها به. فقد أعيد الضباط الذين يعملون فى قطاعات مدنية إلى وظائفهم العسكرية أو تم نقلهم نهائيا إلى وظائف مدنية. وتم إلغاء وحدات غير مقاتلة كانت مكلفة بأعمال مدنية من اختصاص وزارات أخرى، وبذلك احترفت القوات المسلحة عملها العسكرى فقط. وقد كانت هذه الخطوة من أفضل ما اتخذته القيادة السياسية مع القيادة العسكرية فى تلك المرحلة، بعد أن كانت القيادة العليا للقوات المسلحة قد زحفت إلى أعمال مدنية لا شأن لها بها، حتى أصبح المشير عامر فى وقت من الأوقات رئيسا «للجنة تصفية الإقطاع».. وفى إطار هذه السياسة التى قضت بتفرغ جميع قيادات ووحدات القوات لواجبها الطبيعى وهو العمل العسكرى فى شئون الدفاع عن الدولة، صدرت قرارات جمهورية بنقل وحدات حرس الجمارك إلى وزارة الداخلية، ونقل وحدات مراقبة التموين إلى وزارة التموين. كما تم إلغاء وحدات الزراعة التى كانت تشمل أكثر من ثلاثة ألوية من الجنود والضباط والعربات. مكلفة بزراعة خمسين ألف فدان فى مديرية التحرير ونقلت جميعها إلى وزارة الزراعة. وألغيت وحدات النقل العام بمدينة القاهرة، والتى كان فيها عناصر كثيرة من إدارة المركبات والشرطة العسكرية، حيث أعيدت كلها إلى مؤسسة النقل العام.
<< خاتمة: فى رده على ملاحظتى التى سجلتها فى نهاية عمود أمس. التى كانت وثيقة الصلة بالموضوع أعلاه، أبرز الأستاذ عماد الدين حسين رئيس تحرير «الشروق» على الصفحة الأولى عنوان عاموده الداخلى الذى تحدث عن الجيش وفلان (الذى هو أنا) وسياسة «الشروق» التحريرية. وبذلك وضعنى فى مواجهة الجش. وهو المربع الغلط الذى أشرت إليه فى مستهل هذا النص. فيما يوحى للقارئ بأننى ضد الجيش وهو يدافع عنه، فى حين أن كلامى وكلام غيرى من المثقفين كانت له وجهة مناقضة تماما. وحين لاحظت أنه بعد تلك الإشارة وجه الشكر إلى رئيس مجلس إدارة الجريدة لأنه أتاح لمثلى وغيرى أن يعبروا عن أنفسهم ببعض الحرية، فإننى فهمت الملاحظة التى أبداها فى مستهل مقالته، حين حرص على أن يسجل اختلافه «شبه الكامل» معى فى المنطلقات والآراء. وقد قدرت صراحته لأن كلا منا له حقا وجهة مغايرة. إذ لكل قِبلة هو مٌوَلِّيها.