فهمي هويدي
صحيح أن الكلام عن «البديل المدنى» فى مصر يعد من قبيل الترف الفكرى، إلا أنه لا غضاضة فى فتح الملف لكى نمارس نوعا من الترف نحن محرومون منه.
(١)
حين برز المصطلح على سطح الحياة الثقافية فى مصر فى أواخر القرن الماضى استغربه الشيخ محمد الغزالى رحمه الله حتى بدا ملتبسا عليه. وسمعته آنذاك يقول ما هو مدنى يقابل المكى فى التراث الإسلامى، حيث هناك آيات مكية (نزلت فى مكة) وأخرى نزلت فى المدينة فصارت مدنية. وهذه التفرقة يستدل بها فى تفهم ظروف المرحلة والبيئة التى نزلت فيها كل آية. أضاف أننا عرفنا بعد ذلك تفرقة بين المدنى والعسكرى. وأثار حيرته آنذاك أنه دعى فى عام ١٩٩٢ إلى مناظرة حول الدولة الدينية والدولة المدنية. واتضحت الصورة لديه أثناء المناظرة، حين وجد أن المصطلح مجرد غطاء للصراع العلمانى والإسلامى. وأن أنصار التيار الأول أرادوا تحسين صورتهم فاستخدموا مصطلح المدنى، تجنبا للأصداء السلبية التى ارتبطت فى أذهان كثيرين لدى استقبالهم لكلمة العلمانية. وكنت أحد الذين بذلوا جهدا آنذاك لإقناعه بأن مصطلح «المدنى» فى أصله الذى ظهر فى القرن السابع عشر أريد به التعبير عن كل سكان المدن والمجتمع بمختلف طوائفه، المتدينون منهم وغير المتدينين. وقد أطلق للخلاص فى سلطة الكنيسة فى التجربة الغربية. ولكن بعض المثقفين العلمانيين اختطفوه واستخدموه فى مقارعة التيار الدينى ومخاصمته. ومازالت الأغلبية تسير على ذلك الدرب فى الوقت الراهن. أما الأقلية فإنها أدركت أن المجتمع المدنى الحقيقى هو المجتمع الديمقراطى، الذى يحترم الدين ولا يخاصمه. وبالمناسبة فليس كل علمانى ديمقراطيا والعكس صحيح. وللعلم والتذكرة فقط فإن الرئيس السورى بشار الأسد اعتبر أن نظامه يعد الدولة العلمانية الوحيدة فى العالم العربى!
(٢)
لست صاحب الدعوة إلى «البديل المدنى» فى مصر. لكنها أطلقت خلال الأسابيع الأخيرة فى الفضاء المصرى من جانب بعض المثقفين، أبرزهم الدكتور عصام حجى عالم الفضاء بوكالة «ناسا» والمستشار السابق للرئيس عدلى منصور. والدكتور أحمد عبدربه أستاذ العلوم السياسية. ومما له دلالته أن الاثنين يعملان فى الولايات المتحدة الأمريكية حيث الأجواء مواتية والسقف المرتفع يسمح بالخوض فى هذه الأمور دون حرج، خصوصا أنه يفترض فى مصر أن تجرى انتخابات رئاسية جديدة بعد سنتين. وفى الأعراف الديمقراطية فإن الحديث فى الموضوع يصبح مناسبا ومطلوبا، على الأقل لمعرفة أسماء المرشحين وأفكارهم وبرامجهم. غير أن الأمر قوبل فى مصر من جانب البعض إما بالصمت أو بخليط من الدهشة والعصبية، وهو ما جرى التعبير عنه بخطاب جارح ومهين، كاد يخرج دعاة البديل المدنى من الملة الوطنية، إذا جاز التعبير.
الدكتور عصام حجى ألقى بالمصطلح وتحدث عن التفكير فيه، فى حوار تليفزيونى أجرى معه بلندن بثته قناة «العربى». لكن خطابه جاء رومانسيا إلى حد كبير. أما الدكتور عبدربه فإنه دخل فى صلب الموضوع بخطاب علمى رصين، فى مقاله الذى نشرته جريدة «الشروق» (يوم السبت الماضى ٦/٨) ــ وفى نصه المنشور حدد ثمانية شروط اعتبرها ضرورية لنجاح البديل المدنى المنشود، ولم يكن كلامه صريحا فيما إذا كان فى حديثه عن الحالة المصرية ينطلق من رؤية مدنية فى مواجهة المؤسسة التى تقود البلاد حاليا متكئة علي عناصر القوة، أم إنه يستهدف نظاما ديمقراطيا حقيقيا سواء فى وجود "مؤسسات القوة" أم فى غيابهم. مع ذلك فإن سياق كلامه والشروط التى وضعها يستشف منها انحيازه إلى المعنى الأخير.
(٣)
ما ذكره الدكتور أحمد عبدربه شجعنى على المشاركة فى الحوار، أولا لأهمية الموضوع وثانيا لأننى أدركت أنه لم يلحظ بشكل كاف تعقيدات الواقع المصرى والعربى بوجه عام. إذ حدد شروطا تفترض أن المجتمع الذى يتحدث عنه ديمقراطى بالأساس، تتوافر له الشفافية ويعلى من شأن المسئولية السياسية بما يستصحبه ذلك من نقد للذات وحساب للمسئول أمام الرأى العام. وهو ما لا يقلل من أهمية النقاط الأخرى التى أثارها، وعلى رأسها دعوته لأن يكون البديل المدنى مؤسسة وليس شخصا، إشارته إلى المصالحة الوطنية كشرط أساسى لإقامة المجتمع المنشود، الذى لا يقصى أحدا، ويحتكم الجميع فيه إلى الدستور والقانون.
هاتان النقطتان إذا كانتا أهم ما أشار إليه، إلا أنهما تشكلان أهم عقبتين تعترضان التحول الديمقراطى فى مصر. إذا سألتنى لماذا، فردى أوجزه فيما يلى:
إن الثقافة السائدة فى العالم العربى ــ ومصر فى المقدمة منه بكل تأكيد ــ لم تعرف بعد فكرة المؤسسة. وقد ذكرت من قبل أنها لاتزال أسيرة فكرة القبيلة التى رأسها فرد. وقد تكون قيادة القبيلة لفرد أو أسرة أو تكون جيلا من العسكريين. أو قيادة تاريخية استثنائية. وبسبب غياب المؤسسة أو المؤسسات التى تشارك فى القرار ويحكمها نظام وليس مزاج فرد أو نسبه، فالحاصل أن العالم العربى لم يدخل طور الدولة الحديثة بعد. وهو ما يسوغ لى أن أقول إننا مازلنا فى زمن الجاهلية السياسية التى يتحول فيها الحاكم إلى «وثن» تحوطه هالة من التقديس ترفعه فوق الحساب أو القانون. وفى ثقافتنا السياسية إشارات تؤيد ذلك المعنى، حيث يختزل الوطن ــ وأحيانا الأمة ــ فى شخص أو أسرة. فالدولتان الأموية والعباسية نسبتا الأمة الإسلامية إلى بنى أمية وبنى العباس. وفى عالمنا العربى دولتان على اسم أسرتين هما المملكة العربية «السعودية» والمملكة الأردنية «الهاشمية»، وفى مصر مثلا حديث عن المرحلة الناصرية ومصر السادات ومصر مبارك ويسعى البعض إلى ضم السيسى إلى القائمة. حيث قرأت لمن كتب عن الحمد لله على نعمة السيسى. كما يحاول آخرون الترويج للادعاء بأن مصر ستختفى من الوجود إذا غاب عنها الرئيس.
صحيح أن مصر لم تكن كذلك دائما برغم أن تاريخها فى العصر الفرعونى المبكر عرف عصر الأسرات إلا أنها عرفت طورا ليبراليا مشهودا فى ظل الملكية، غير أن المجتمع المصرى عانى من الضعف بصورة تدريجية بعد ثورة يوليو ١٩٥٢. فى أعقاب حل الأحزاب وتقزيم النقابات وتغييب الديمقراطية الأمر الذى أفقد المجتمع عافيته. بحيث أصبحت السلطة هى مصدر القوة الوحيد. وإذا كانت الإنجازات السياسية التى حققها الرئيس عبدالناصر فى عهده قد حافظت على قوة الدولة، إلا أن إخفاقات لاحقيه ضاعفت من هزال وهشاشة السلطة والمجتمع. ولعل صورة الأحزاب المصرية الراهنة ومجلس النواب الذى يفترض أنه يمثل الشعب إلى جانب حملات القمع التى تتعرض لها منظمات المجتمع المدنى والنقابات، هذه القسمات ترسم صورة واضحة لحالة الضعف والوهن الذى وصل إليه المجتمع. وكانت نتيجة ذلك أن أصبحت المؤسسة العسكرية والأمنية هى كيان القوة الوحيد الذى يتنامى ويحتفظ بحضوره وتماسكه.
(٤)
ثمة اعتراف آخر لابد أن نسجله خلاصته أن المجتمع المصرى بات يعانى من الانقسام، الذى تقوده النخبة، الأمر أصبح يشكل عقبة رئيسية تعترض طريق المصالحة الوطنية والوفاق الأهلى. بوجه أخص فإن الصراع العلمانى الإسلامى استحكم بحيث ما عادت الأغلبية فى كل جانب مستعدة لأن تلتقى مع الجانب المقابل. فى هذا الصدد فإننا لا نستطيع أن نتجاهل أن اصطفاف القوى العلمانية إلى جانب المؤسسة الأمنية فى مواجهة تيار الإسلام السياسى لعب دورا مهما فى تعميق الشقة وتثبيت قوائم المفاصل.
إذا واصلنا المصارحة فينبغى أن نعترف أيضا بأن الشأن المصرى لم يعد داخليا خالصا، إذ بسبب عوامل كثيرة بينها الوضع الاقتصادى المتأزم فإنه صار شأنا إقليميا أيضا، ذلك أن اعتماد مصر على المعونات الخليجية الخارجية كان بابا أتاح لبعض دول الإقليم أن تشكل حضورا لافتا للانتباه فى الشأن الداخلى.
الاعتراف الأخير الذى يحضرنى فى هذا السياق خلاصته أن الوضع الراهن فى مصر يشكل نقطة تحول فاصلة فى مسيرة جهاز الإدارة فيها، تضطلع فيه المؤسسة العسكرية والأمنية بالدور الأكبر فى تسيير الشأن العام. وهذا الدور يتزايد بمرور الوقت، الأمر إلى يدخل البلاد فى نفق طويل يصعب الخروج منه فى الأجل المنظور. ولنا فى ذلك عبرة تمثلها خبرة تركيا، التى احتاجت إلى سبعين سنة لكى تنتقل إلى البديل المدنى فى نهاية المطاف.
إذا سألتنى ما العمل؟ فردى أننا نحتاج إلى مناقشة أوسع لتحليل عناصر الواقع أولا وللبحث عن مخرج من الأزمة قبل أن يغيب الضوء من النفق. وتلك مسئولية المثقفين الوطنيين الذين لم يندثروا بعد فى مصر، وأثبتت تجارب عدة أنهم موجودون وجاهزون دائما لتلبية نداء الواجب، الذى أصبح البديل المدنى مدرجا على لائحته. وهؤلاء مطلوب منهم أن ينسوا انتماءاتهم ومراراتهم لينشغلوا بشىء واحد هو مستقبل الوطن وحلم شعبها فى غد أفضل. ذلك أن الشوط طويل والحلم يتعرض للتآكل والتبديد حينا بعد حين. وما يعد ترفا الآن سيكون شرطا للانخراط فى التاريخ بعد حين.