يحتاج المرء إلى بعض الخيال، وربما استعان بصديق، لكى يصدق أن حاكما على ولاية يتجاوز عدد سكانها نحو مليون ونصف المليون نسمة، وناتجها المحلى السنوى يقدر بنحو ٥٥ مليار دولار، احتاج إلى دخل إضافى، فاشتغلت زوجته نادلة فى مطعم كى تدبر ثمن سيارة تحتاجها، لا يحدث ذلك سوى فى الولايات المتحدة. والحاكم الذى أعنيه اسمه بول لوبيدج، والولاية التى انتخبته هى «مين» الواقعة فى الشرق الأمريكى القريبة من الحدود الكندية، وهى مشهورة بوفرة موانيها وأنهارها (بها ١١٦ نهرا) أما الزوجة فهى آن لوبيدج التى تبلغ من العمر ٥٨ عاما، وقصتها نقلتها وكالة رويترز على النحو التالى:
تعمل زوجة حاكم ولاية مين نادلة فى مطعم. إذ تظهر كل يوم وقد ارتدت سروالا من الجينز وقميصا قطنيا ومريلة، لكى تقدم الطعام للسائحين وغيرهم من رواد المطعم. وقد اضطرت إلى ذلك لكى توفر دخلا إضافيا لنفسها ولأسرتها. ذلك أن راتب زوجها هو الأقل بين حكام الولايات الأمريكية. إذ إنه يتقاضى ٧٠ ألف دولار سنويا، علما بأن أعلى راتب يحصل عليه حاكم ولاية بنسلفانيا ويبلغ ١٨٧٨١٨ دولارا سنويا، وهو مبلغ أكثر مرتين ونصف المرة مما يتقاضاه حاكم ولاية مين.
حين سئلت الزوجة فى حوار تليفزيونى لم تخف مشاعرها وقالت لمن سألها: يا عزيزى فتش عن المال. وأضافت أن الناس يتوقعون منى شيئا آخر بسبب وظيفة زوجى، إلا أننى أمضى وقتا رائعا والطعام رائع والمنظر رائع والخدمة رائعة.
الزوج بول لوبيدج تطرق إلى عمل زوجته فى إحدى المناسبات التى أقامتها البلدية بأنه لم يستغرب لجوء زوجته إلى العمل نادلة فى مطعم، وأن الأم سارت على خطى ابنتها التى كانت تكسب ٢٨ دولارا فى الساعة حين عملت بدورها نادلة فى أحد المطاعم الأمر الذى وفر لها دخلا طيبا.
كانت السيدة آن صادقة مع نفسها حين رددت شعار «فتش عن المال»، ولم يكن اشتغالها نادلة فى مطعم عملا استثنائيا رغم أنه بدا لافتا للنظر، لأن عمل كل فرد فى الأسرة وربما استقلاله المكانى جزء متعارف عليه فى ثقافة المجتمع، وان ظل بقاء الزوجة فى بيت واحد مع زوجها أمرا اقتضته الضرورة الاجتماعية، لكنه ليس قاعدة عامة. أما استمرار الزواج بين الرجل وزوجته لعدة سنوات فإنه أمر استثنائى يصبح مضربا للأمثال.
لا نستغرب ثقافة المجتمع خصوصا فى شقها الخاص باستغلال إقرار الأسرة خاصة الأبناء والبنات الذين يعتمدون على أنفسهم منذ نعومة أظفارهم. لكنى وجدت فى قصة زوجة حاكم ولاية مين نموذجا فهمته واحترمته. ووجدت له دلالات عدة، فضلا عن أنه دفعنى إلى المقارنة بين القصة الأمريكية ونظائرها المفترضة فى العالم العربى. فالحاكم عندهم فرد عادى ينتخبه الناس ويراقبونه ليس فى مجمل أدائه فحسب، ولكن فى إنفاقه وموارده المالية أيضا. إذ كل ما يتقاضاه من أجور وما يدفعه من ضرائب أو ما يحصل عليه من مكافآت معلوم للكافة ومعلن على الملأ.
رغم أن الحاكم فى الولاية الأمريكية أكثر أهمية وأثقل وزنا وأوسع صلاحيات من المحافظ أو رئيس البلدية عندنا، إلا أنه لا فرق فى الأبهة والسلطان والهيلمان الذى يتمتع به الأخيرون فى بلادنا. ذلك أن مسئول الولاية أو المحافظة يتولى منصبه عندنا بالتعيين.. وبالتالى فهو ممثل لرئيس الجمهورية وهو الحكومة والسلطة التى يعمل لها ألف حساب. من ثم فليس للناس فضل عليه، فلا هم الذين أتوا به وليس بمقدورهم إعفاءه من منصبه، ومن الطبيعى فى هذه الحالة أن يكون ولاؤه لمن عينه ورضاؤه عنه فى بلادنا غاية المراد، أما سخط الناس عليه فلا وزن له ولا قيمة.
الذى لا يقل عن ذلك أهمية أن المحافظ أو الوالى ما إن يتولى منصبه حتى توضع إمكانيات الولاية تحت تصرفه، ولا محل للحيرة أو التساؤل بشأن وسائل انتقال الأسرة، وفى حالات أعرفها فللوالى أو المحافظ سيارته وموكبه، وللزوجة سيارة أخرى، للأولاد ومدارسهم سيارة على الأقل. ثم هناك سيارة لقضاء حوائج البيت ومصالحه. وقرأت عن وزير الداخلية المصرى الأسبق الذى كانت تخصص سيارة لكى تنقل إليه الزبادى طازجا كل صباح من القاهرة إلى منتجعه فى الساحل الشمالى. وفى الجزائر حدثونى عن تخصيص سيارات تستحضر الحليب للكلاب والقطط التابعة لبعض كبار المسئولين من الجنرالات بصفة يومية.
أما زوجة المحافظ أو الوالى فهى السيدة الأولى فى نطاق اختصاصه تحاط بالأضواء ويلتمس الجميع القرب منها وكسب رضاها. وربما صارت لها حاشيتها التى تحيط بها حيثما ذهبت. وحين يقارن المرء بين قصة زوجة حاكم الولاية الأمريكية وبين ما نسمع ونرى من زوجات المحافظين والولاة فإنه يعتبر الأولى من الأساطير والأعاجيب التى يتداولها الحكاءون والرواة.
فى الأثر أن رجلا دخل على الخليفة الأموى معاوية بن أبى سفيان فقال له: السلام عليك أيها الأجير وحين أغضب ذلك صحبه وهموا بتأديبه قال الرجل لمعاوية إن الله استأجرك لكى تقوم بأمر المسلمين وتسهر على خدمتهم، فأجلسه معاوية إلى جانبه واستمع إلى شكايته.
إن حاكم ولاية مين يتصرف باعتباره أجيرا، وزوجته لم تر نفسها من طينة أخرى غير البشر فى الولاية، أما نظراؤه فى بلادنا فإنهم يتلبسون أدوار الفراعين الصغار، إلا من رحم ربك بطبيعة الحال.