بقلم فهمي هويدي
يصدمنا الحاصل فى التعليم بمصر أكثر من مرة. فأن تكون هناك لجان خاصة لامتحان أولاد الأكابر لتمكينهم من الغش على راحتهم، فتلك كارثة بكل المقاييس، وحين يحدث ذلك بموافقة وزارة التربية والتعليم رغم ما فيه من شبهة فتلك كارثة أخرى. أما حين يقال إن ذلك حاصل فى عدة محافظات، وليس فى أسيوط فقط التى انفجرت فيها الأزمة، فتلك كارثة ثالثة تعلن عن عموم البلوى. أما حين تمر الفاجعة دون أن تحدث الدوى الذى يستحقه فتلك كارثة رابعة. وحين ندرك أن ما يجرى يسهم فى تدمير الأجيال الجديدة، فإننا نصبح بإزاء تهديد حقيقى لأمن مصر القومى، يتجاوز بكثير ما يمثله الإرهاب، الذى إذا كان يمثل تحديا للسلطة فى الحاضر، فإن كارثة التعليم تخرب الحاضر والمستقبل معا.
الفضيحة ذاع أمرها من أسيوط، وكشفتها مواقع التواصل الاجتماعى، إذ تفجرت حين ادعى أحد المدونين أن لجنة خاصة شكلت لأبناء «الأكابر» المتقدمين للثانوية العامة، وقيل آنذاك إن عددهم ١٢٠ طالبا من أبناء ضباط الجيش والشرطة والقضاة ونواب البرلمان ومسئولين فى المحافظة. كما قيل إن التشكيل تم بموافقة وزارة التربية والتعليم، ويبدو أن الفضيحة انكشفت حين أعلن رئيس اللجنة اعتذاره عن عدم القيام بمهمته قائلا إنه لا يستطيع وقف الغش داخل اللجنة بسبب ضغوط أولياء الأمور ونفوذهم. وهو ما اعترفت به وزارة التعليم إلا أنها جادلت فى هوية الطلاب وأعدادهم. فقالت مثلا إن العدد ٧٥ وليس ١٢٠ وأن بينهم ابنا لضابط واحد. أضاف بيانها أن عملية التحويل إلى لجنة مدرسة البدارى الثانوية تمت بصورة قانونية. لكن أحدا لم يجادل فى أصل الخبر، ولا فى كون التحويل رغم قانونيته إلا أنه حين تم متزامنا مع توقيت إجراء الامتحانات فإنه كان مشبوها وسوء النية كان واضحا فيه. ثم إن اعتذار رئيس اللجنة عن عدم الاستمرار فى مهمته بسبب تفشى الغش فى اللجنة لم يكذب.
فهمنا بعد ذلك أن المصيبة أكبر، وأننا لسنا بصدد حالة فريدة واستثنائية. إذ تواترت الكتابات التى أشارت إلى أن الخبر قديم وليس جديدا، بمعنى أن التصرف له سوابقه فى مدرسة «الجهاد» بالبدارى، ثم أنه ليس مقصورا على محافظة أسيوط وحدها، وأن «النموذج» تكرر فى محافظات أخرى دأبت على تخصيص لجان لأبناء الأكابر يتم فيها «التسامح» مع غش الطلاب، الأمر الذى لا يضمن لهم النجاح فقط ولكنه يوفر لهم حظا أكبر فى الحصول على أعلى الدرجات. وهو ما يؤهلهم للتفوق الزائف الذى يسمح لهم بالحصول على أعلى نسب النجاح، ومن ثم الالتحاق بأفضل الكليات. ولا أستبعد أن يتم إنجاحهم بعد ذلك بالغش أيضا. وهو ما يعنى أننا لسنا بإزاء واقعة ولكننا فى مواجهة حالة كما يقول أهل القانون. والأولى انحراف محدود النطاق والثانية أقرب إلى الوباء الذى يصيب دائرة أوسع من الناس.
المشهد صادم على نحو يصعب تصديقه فالضالعون فيه شريحة من مواطنى الدرجة الأولى فى مصر، الذين ينتمون إلى مراكز القوة والنفوذ فى المجتمع. وهؤلاء يتصرفون باعتبارهم الشعب المختار فى المرحلة الراهنة. لا يعنيهم القانون ولا الأخلاق ولا مستقبل البلد، الذى يفترض أن يكون هؤلاء الغشاشون بين قياداته يوما ما. كل ما يعنيهم هو الحفاظ على ميزاتهم ووجاهتهم التى يحرصون على توريثها لأبنائهم حتى إن كانوا من عديمى الكفاءة والموهبة.
الأمر جلل أيها السادة. إذ إننا لسنا بصدد فساد عادى ولكننا بصدد وباء يهدد عقل الأمة وعافيتها لعدة أجيال قادمة من حيث إنه يرشح لقيادتها شرائح مزيفة ومغشوشة وعديمة الجدارة. فضلا عن أنه بمثابة إخلال فادح بتكافؤ الفرص يهدر حقوق المواطنين العاديين ويعتبرهم أبناء البطة السوداء، ويقدم أبناء الأكابر بحسبانهم أبناء البطة البيضاء. والفساد فى هذه الحالة ليس مقصورا على الأكابر المذكورين، ولكنه ضارب الجذور فى جهاز التعليم ذاته، الذى سمح بما جرى وغض الطرف عنه. مجاملة لأولئك الأكابر، ولولا الرجل الشريف الذى رفض التستر على الفضيحة. لمر الأمر دون أن يشعر به أحد لعدة سنوات مقبلة. علما بأننا لا نعرف متى بدأت العملية وما هو نطاقها.
إن أول ما يجب عمله لمواجهة الوباء أن نحدد حجمه بالضبط. بحيث يتم التعرف على عدد اللجان الخاصة التى أقيمت فى المحافظات الأخرى. وكيف تدار ومن يقف وراءها. خصوصا أن ثمة تسجيلا تليفزيونيا لمدير الشئون المالية والإدارية السابق بوزارة التعليم، ذكر فيه أن صاحب إحدى المدارس الخاصة عرض عليه رشوة بقيمة مليونى جنيه لكى يشكل لجانا خاصة فى محافظات بعينها وإرسال مراقبين بمواصفات معينة، لإنجاح طلاب مدارسه بتفوق يرفع رصيدها فى السوق. وهى خلفية تؤيد الادعاء بأن ما حصل فى أسيوط ليس جديدا ولا هو فريد فى بابه، وإنما له سوابق ينبغى رصدها وتتبعها.
لا أعرف ما إذا كان بوسع مجلس النواب أن يقوم بما عليه فى هذا الصدد أم لا، علما بأن تحرى المسألة يدخل فى صميم «دعم الدولة». لكن ما أعرفه أننا بحاجة عاجلة إلى تشكيل لجنة مستقلة لتحرى حقائق الظاهرة، سواء ما تعلق منها بسوابق الغش وحدوده فى مختلف مراحل التعليم. أو بالثغرات القانونية التى سمحت بظهور الوباء. أو بالمجموعات التى نجحت فى الثانوية العامة بالغش وتوزعت بغير حق على كليات القمة. أعرف أيضا أننا فى مواجهة كارثة لا نستطيع أن ننسبها إلى «أهل الشر»، ولكنها منسوبة بالكلية إلى جبهة الموالاة والمستفيدين من الوضع الراهن. أعرف كذلك أن تدمير أى بلد من داخله ودونما حاجة إلى أى تآمر أو تدخل خارجى يتم بتخريب التعليم والقضاء فيه. من ثم فالحاصل لا ينبغى له أن يصيبنا بالقلق فحسب، ولكنه ينبغى أن يحرك فينا مشاعر الخوف والفزع.