فهمي هويدي
جيد أن نسمع صوت المجتمع السعودى، ومفرح أن يطلق بعضه شعار «سعوديون ضد التطبيع»، ومثير للإعجاب والتقدير أن يوجه السعوديون نداءهم إلى جميع الدول الخليجية أن توقف اختراق الطاعون الإسرائيلى لمحيطها بما يخل بالتزامها الوطنى والقومى، ويلوث صفاءها ونقاءها السياسى. ولئن حسب ذلك لصالح وعى السعوديين رجالا ونساء الذين نتابع من على البعد حراكهم النبيل، إلا أننا نادرا ما كنا نسمع أصواتهم. لكننا إذ أردنا أن ننسب الفضل لأهله فلابد أن نسجل أنه لولا شبكات التواصل الاجتماعى لما أتيح لنا أن نتعرف على المشاعر الحقيقية للنشطاء السعوديين وأضرابهم. ولا غرابة فى ذلك، لأن شوق السعوديين إلى إيصال أصواتهم لم يكن أقل من شوقنا نحن لسماع تلك الأصوات. وحين نعلم أن السعوديين أصبحوا الأكثر حضورا على شبكات التواصل على مستوى العالم، فإننا ندرك مدى عمق ذلك الشوق واتساع دائرته، ونفهم أن العلاقات بين المجتمع السعودى والعالم الخارجى انفتحت على مصارعها. ولئن كان بعضهم قد طاف أرجاء الكرة الأرضية، فإن مواقع التواصل جاءت بالكرة الأرضية إلى كل بيت فى الداخل.
إذا جاز لنا أن نتصارح أكثر فى رصد تلك العلاقة، فلابد أن نعترف بأن الواجهات السعودية ليست أفضل تعبير عن واقع شعب المملكة، إذ هى فى نهاية المطاف معبرة عن السلطة بأكثر من تعبيرها عن المجتمع. إزاء ذلك فربما جاز لنا أن نقول إن الإعلام التقليدى، المرئى والمكتوب والمسموع فى المملكة بات الأكثر تعبيرا عن توجهات السلطة فى حين أن الفضاء الإلكترونى غير الخاضع للسلطة بات الأكثر تعبيرا عن تفاعلات المجتمع. وأيا كانت الشرور التى تتخلل ذلك الفضاء. فالثابت أن فضائله غالبة ولا تكاد تحصى. إذ ليس هناك شىء يعادل ممارسة المجمع لحقه فى التنفس والتعبير الحر.
أدرى أن الفضاء الإلكترونى فى السعودية يعج بالمبادرات والحوارات الجادة والساخرة. وتلك لم تترك شيئا فى الداخل والخارج إلا وتناولته بصورة أو بأخرى. ومما له دلالته فى هذا الصدد أن جريدة «الرياض» نشرت فى التاسع من شهر أغسطس الحالى تقريرا ذكر أن موقع يوتيوب يبث يوميا ١٦٧ مليون مشاركة. منها تسعون مليونا من السعودية وحدها (عدد سكان المملكة ٣١ مليون نسمة حسب الإحصاء الرسمى). وللأسف فإن الإعلام العربى لا يسلط الضوء على تلك المبادرات التى تتفاوت فى الأهمية. أغلب الظن بسبب حذر الإعلام السعودى فى الداخل والخارج. أو تحسبا للنفوذ السعودى الذى يعمل له الكثيرون حسابا خاصا يتسم بالمجاملة إلى حد كبير.
مع ذلك فإن مبادرة «سعوديون ضد التطبيع» نجحت فى عبور الحدود، لأنها تتصل بالتطور المثير الأخير فى السياسة السعودية من ناحية، ومن ناحية أخرى لأن موضوعها يمس وترا حساسا فى الوعى والضمير العربى والإسلامى.
ما فهمته من حملة «سعوديون ضد التطبيع» أنها صدرت فى بيان تبناه عدد من المثقفين الوطنيين المستقلين فى السعودية ومختلف دول الخليج الأخرى باستثناء دولة الإمارات. وهؤلاء وصل عددهم إلى ١٥٠٠ شخص من الرجال والنساء. وقعوا بأسمائهم على البيان، فى بادرة شجاعة لها دولالتها القوية، ودعا البيان الذى أعلن فى ٧/٨ الحالى الحكومات الخليجية، إلى «منع أشكال التطبيع وعلى رأسها المقابلات الرسمية وغير الرسمية مع مسئولى العدو. وعدم إرسال وفود رسمية أو حتى السماح لوفود غير رسمية لا تمثل الدولة بزيارة الكيان الغاصب واللقاء مع مسئوليه». دعا البيان أيضا إلى «معاقبة كل من يقوم بمخالفة ذلك، التزاما بقوانين مقاطعة العدو الصهيونى فى دول الخليج العربى والقوانين التى تمنع السفر إلى الكيان الغاصب».
مجموعة «سعوديون ضد التطبيع» شددت على أن الخليج العربى يرفض التطبيع مع الكيان الصهيونى. ودعت إلى ضرورة «اتخاذ جميع الخطوات اللازمة لتشجيع مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها ضمن سياق حملة BDS العالمية». (حركة المقاطعة وسحب الاستثمار وفرض العقوبات) ولم يخف البيان أن إصداره صدى للأنباء التى تحدثت عن قيام وفد سعودى غير رسمى فى شهر يوليو الماضى بزيارة الأراضى المحتلة والاجتماع مع مسئولين من الكيان الصهيونى. وذكر معدوه أنهم أصيبوا جراء ذلك بالصدمة وخيبة الأمل، وأن الزيارة لا تعد تجاوزا لكل الأعراف والقوانين المتبعة فى المملكة العربية السعودية حيال مقاطعة الكيان الصهيونى وعدم الاعتراف بشرعيته فحسب، بل تمت فى وقت تتسارع فيه وتيرة الاستعمار الاستيطانى للأراضى الفلسطينية.
الموقف مهم للغاية، لكن الذى لا يقل أهمية عنه أننا سمعنا أخيرا صوتا شريفا يعبر عن حقيقة المجتمع الخليجى والسعودى الذى غاب عنا حتى انتظرناه طويلا.