فهمي هويدي
اعتذرت عن عدم حضور مؤتمر لمكافحة الإرهاب فى الخرطوم لسببين، أحدهما خاص ذكرته للمستشار الصحفى بالسفارة السودانية الذى نقل إلى الدعوة، والآخر عام للقارئ حق فيه. أما الخاص فهو أن المؤتمر يفترض أن يعقد بالخرطوم يوم الخميس المقبل (١٨/ ٨). وكان الوقت أقصر من أن أعد نفسى للمشاركة فيه. السبب العام والأهم الذى لم أذكره للدبلوماسى السودانى هو أننى لم أعد قادرا على إخفاء استيائى و«قرفى» من الأنظمة التى تمارس الإرهاب ثم لا تكف عن الدعوة إلى مكافحته. كأنما الإرهاب المعترف به فقط هو ما تمارسه الجماعات، أما قمع الأنظمة وإرهابها فهو من وجهة نظرها مشروع ومباح، ذلك رغم أن الأول استثناء فى العمل السياسى والثانى قاعدة فى سلوك الحكومات غير الديمقراطية.
شاءت المقادير أن أتلقى دعوة السفارة السودانية يوم الأربعاء الماضى ١٠/٨، وفى اليوم ذاته وقعت على تقريرين من الخرطوم حول القمع الذى تمارسه السلطة بحق الصحفيين. الأول بخصوص واقعة إلقاء القبض على صحفية تعمل بصحيفة «الجريدة» اسمها حواء رحمة. كانت تؤدى عملها فى تغطية إزالة السلطات لمساكن المدنيين فى حى التكامل بالعاصمة الخرطوم. فما كان من الشرطة إلا أن ألقت القبض عليها ونقلتها إلى «نقطة ارتكاز» الشرطة بالحى، حيث تعرضت للإهانة والضرب والتحقيق. وصرفت بعدما تعهدت بعدم العودة إلى ارتكاب «الجريمة» مرة ثانية. التقرير الثانى عن واقعة أخرى حدثت فى نفس اليوم إذ تمت مصادرة صحيفة «اليوم التالى»، لأن بعض محتويات العدد لم ترق للأجهزة الأمنية. وكانت الأجهزة ذاتها قد صادرت صحيفة «الجريدة» فى يوم سابق بعد طباعة ١٠ آلاف نسخة، وهو ما أدى إلى خسارة قدرت بنحو ٣٠ مليون جنيه سودانى، إضافة إلى ١٣ مليونا حصيلة الإعلانات التى نشرتها فى العدد.
هذا السلوك ليس استثنائيا، لأن مصادرات الصحف اليومية (عددها نحو ٤٠ صحيفة) أصبحت من طقوس وتقاليد الواقع السودانى فى ظل حكم الرئيس البشير الذى يسير الأمور فى البلاد منذ ٢٧ عاما. بسبب من ذلك فما عاد يمر يوم دون أن تداهم الأجهزة الأمنية مقر صحيفة أو أكثر لمصادرتها والتحقيق مع مسئوليها. وفى إحدى المرات تقررت مصادرة ١٢ صحيفة فى يوم واحد. وما يثير الدهشة أن هذه الإجراءات التعسفية تتخذ بحق الصحف لمجرد تصدِّيها لصور القصور أو الفساد من جانب الأجهزة البيروقراطية. حتى إن إحدى الصحفيات تعرضت للاعتداء وصودرت صحيفتها (اليوم التالى) لأنها نشرت تحقيقا عن تلوث مياه النيل الأبيض.
لا غرابة والأمر كذلك أن تصدر منظمة مراسلون بلا حدود تقريرا هذا العام (٢٠١٦) ذكرت فيه أن السودان أصبح واحدا من أسوأ دول العالم فى الحفاظ على الحريات الصحفية. بذات القدر فليس مستغربا أن يحتل السودان فى مؤشر حرية الصحافة والمطبوعات الترتيب ١٧٤ بين ١٨٠ دولة.
لا أنكر أن قمع الصحفيين وإرهابهم فى السودان يتم بدرجة «ألطف» مما نعرفه فى أقطار أخرى شقيقة، لأن إهانة الصحفى وصرفه بعد ذلك ليعود إلى بيته أو مصادرة الصحيفة وإنهاكها ماديا يظل أهون مما يحدث فى دول نعرفها يتم فيها اغتيال الصحفيين وتلفيق التهم لهم أو سجنهم فى الحبس الانفرادى لآجال طويلة. إلا أننا لا ينبغى أن نقارن بما هو أسوأ وأتعس. فضلا عن أن القمع المخفف لا يسقط عنه التهمة. ناهيك عن أنه وثيق الصلة بدرجة اللطف النسبى فى الشخصية السودانية التى لا تعرف اللدد فى الخصومة. ثم لا ننسى أن تحفظنا الأساسى هو على مبدأ القمع والإرهاب وليس على درجته.
ليست تلك المرة الأولى التى اعتذرت فيها عن عدم المشاركة فى مؤتمر عن الإرهاب تنظمه أو تستضيفه دولة تمارس الإرهاب. فقبل سنوات قليلة اتصل بى رئيس إحدى الجامعات العربية ليدعونى إلى مؤتمر دولى ستشارك فيه كل الدول الإسلامية إضافة إلى عدد من الباحثين الغربيين، ولأن سمعة بلاده فى القمع معروفة للكافة، فإننى سألته مازحا هل سيناقش المؤتمر إرهاب الحكومات أم إرهاب الجماعات فقط؟ فوجئ الرجل بسؤالى فقال كلاما لم أفهمه ثم قطع الخط. وبسبب السؤال فإنه لم يجد مبررا لإرسال الدعوة، حيث فهم أن السؤال بمثابة اعتذار ضمنى. وإدانة غير مباشرة لموقف حكومته.
أرجو ألا أكون بحاجة إلى تسجيل موقف من الإرهاب، لكننى أتمنى ألا يتعامل المناهضون له معه بطريقة انتقائية، فيتنافسون على إدانة إرهاب الجماعات ويلتزمون الصمت إزاء إرهاب الأنظمة والحكومات. ليس فقط من باب الالتزام بالموقف القيمى والأخلاقى، ولكن أيضا لأسباب عملية بحتة. ذلك أن التجربة أثبتت أن الأنظمة الاستبدادية هى الوعاء الحقيقى الذى خرجت منه أفكار العنف والإرهاب.
من المفارقات التى كشفت عنها تجاربنا فى السنوات الأخيرة أن أعلى الدول صوتا فى مكافحة الإرهاب والتنديد به. هى أكثرها ممارسة للإرهاب والقمع. الأمر الذى يدعونا إلى الحذر ليس فقط فى استقبال ما يصدر عن تلك الدول من نداءات أو خطابات وإنما يدعونا أيضا إلى الانتباه إلى حجم الانتهاكات التى تمارسها وهى تحدث الضجيج الذى تطلقه لتخفى به الوجه القبيح فى سياساتها الداخلية ومن يريد أن يستزيد فى ذلك فعليه أن يراجع بيانات منظمتى «العفو الدولية» و«هيومان رايتس ووتش» إذ فيها من الوقائع ما نتحرج من ذكره إيثارا للسلامة.