فهمي هويدي
انشقاق رئيس حزب النور السلفى واتجاهه إلى تأسيس حزب جديد باسم الوطن يشجعنا على فتح ملف السلفيين والسياسة فى مصر، الأمر الذى يقودنا إلى التطرق لخبرة الجماعات ذات المرجعية الإسلامية فى الساحة السياسية. إلا أننى أسجل قبل أى كلام أن عودة المصريين إلى السياسة بعدما أقيلوا واستقالوا منها منذ نصف قرن على الأقل تعد تطورا مهما يحسب لثورة 25 يناير. التى أعادت الوطن إلى أهله كما أعادت الأخيرين إلى السياسة. اتصالا بذلك فإننى أعتبر تعدد الأحزاب السياسية وكثرتها أمرا إيجابيا، لأنه من آيات تلك العودة المحمودة إلى السياسة، ولا ينبغى أن تقلقنا الظاهرة مادام الجميع سيحتكمون فى نهاية المطاف إلى صناديق الانتخاب فى ظل انتخابات حرة ونزيهة. وبالمناسبة فقد كان محزنا وموجعا ما أشاعه بعض غير الفائزين فى أعقاب الانتخابات الرئاسية والاستفتاء على الدستور من أن العمليتين شابهما التزوير، الذى أدعوا بأنه لولاه لتغيرت النتائج. وهو ما ذكرنى بحالة الراسبين فى الامتحان الذين يسارعون بمجرد إعلان النتيجة إلى اتهام المصححين بالتدليس والتحيز.
بانشقاق الدكتور عماد عبدالغفور وتأسيسه لحزبه الجديد صار لدينا فى مصر 16 حزبا لها مرجعيتها الإسلامية. تسعة منها تم إشهارها من الناحية القانونية والسبعة الأخرى تحت التأسيس. الأحزاب التسعة هى: الحرية والعدالة ـ النورـ الوسط ـ البناء والتنمية ـ مصر القوية ـ الأصالة ـ الفضيلة ـ الإصلاح والنهضة ـ العمل. أما السبعة التى تحت التأسيس فهى أحزاب: السلام والتنمية ـ التغيير والتنمية ـ مصر البناء ـ الإصلاح ـ التوحيد العربى ـ الأمة ـ الوطن (الحزبان الأخيران أعلن عنهما فى الأسبوع الماضى).
الأحزاب المقابلة ـ التى توصف بأنها مدنية ـ تعذر علىّ إحصاؤها، وحين سألت من هو أخبر منى بها قال لى إنهم فى حدود سبعين حزبا، يجرى التنسيق بينها الآن من خلال مكتب أنشئ لهذا الغرض، فى إطار ترتيب الأوراق قبل الانتخابات التشريعية القادمة.
لدى خمس ملاحظات أساسية على الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية. الأولى أنها ليست أحزابا سياسية خالصة، لكن مرجعيتها فرضت عليها أن تكون دعوية أيضا. وهذه المسئولية المزدوجة تفرض عليها موازنة مستمرة بين ما هو سياسى وما هو دعوى، وفى أحيان عدة تعذر تحقيق تلك الموازنة، الأمر الذى اقتضى التضحية بالسياسة أحيانا وبالدعوة فى أحيان أخرى.
الملاحظة الثانية أن تلك الأحزاب بينها ما هو حديث عهد بالسلطة وما هو حديث عهد بالسلطة والسياسة معا. الأمر الذى يضعف من أدائها السياسى ويورطها فى منزلقات لم تكن فى حسبانها. والسبب فى ذلك الضعف أن الأحزاب الإسلامية ظلت طول الوقت إما مغيبة عن ساحة الفعل السياسى أو مقيدة ومحجوبة داخل السجون والمعتقلات. وفى الحالتين فإن قياداتها وعناصرها عاشت فى السراديب أكثر مما عاشت فوق سطح الأرض. وحاورت نفسها أكثر مما تحاورت أو تفاعلت مع غيرها.
الملاحظة الثالثة متفرعة عن السابقة وتتلخص فى أن ضعف خبرتها لم يكن مقصورا على مجالى السلطة والسياسة، وإنما شمل أيضا رؤيتها وعلاقتها بالعالم الخارجى. وذلك بدوره أمر مفهوم. ذلك أن الذين عاشوا فى السراديب ولم يحاوروا غيرهم، لا يتوقع منهم أن يكونوا على دراية بمحيطهم وبالخرائط والتطورات الحاصلة فى العالم الخارجى.
ملاحظتى الرابعة ـ الأهم ـ أننى لا أخفى دهشة واستياء من ذلك التنافس بين أصحاب المرجعية الدينية على تشكيل الأحزاب السياسية والتمثيل فى البرلمانات والحكومات وغير ذلك من الوجاهات التى على رأسها الحضور الإعلامى. ويحضرنى فى هذا الصدد نموذج الداعية التركى فتح الله كولن، الذى خرج من عباءة حركة النور (أيضا!) لمؤسسها ورائدها الشيخ سعيد النورسى المتوفى سنة 1960. ذلك أن كولن كرس حياته للدعوة والتربية وعزف تماما عن المشاركة فى الحياة السياسية، وامتدت أنشطة جماعته إلى مختلف أنحاء العالم حيث أنشأت أكثر من ألف مدرسة فى الشرق والغرب (لهم مدرسة فى مصر)، بالتالى فإنه خدم المعرفة وخدم الإسلام بأفضل مما قامت به جميع الأحزاب الإسلامية فى مصر.
الملاحظة الخامسة تخص الأحزاب السلفية التى لها مشروع وإطار فكرى واحد. لذلك فإن العلاقة مع الحزب لا تقوم على أساس البرنامج، ولكنها تنبنى على علاقة الشيخ بالمريدين. إن شئت فإن خلافها الحقيقى هو بين أشخاص وليس أفكارا، الأمر الذى يضعف بنيانها ويعرضها للانفراط والتفكك إذا ما خطر لأحد من المريدين أن يتمرد على شيخه، كما حدث فى حزب النور الذى ضاقت بعض قياداته بشيخهم الدكتور ياسر برهامى، فلم يجدوا مفرا من الانشقاق وتأسيس حزب جديد تحت زعامة شيخ جديد. وهو ما يفسر أن تلك الأحزاب التى تأسست والتى لاتزال تحت التأسيس تكاثرت حتى وصل عددها إلى تسعة، علما بأن الفضائيات الدينية لها شيوخها الذين يشكل كل واحد منهم حزبا بذاته.
غدا بإذن الله لنا كلام آخر فى الموضوع.
نقلاً عن جريدة " الشروق " .