فهمي هويدي
بعض أزماتنا المسكوت عليها فى الداخل لا تعرف طريقها إلى وسائل الإعلام المصرية إلا حين يتردد صداها فى الخارج. أحدث نموذج لذلك أبرزته صحف السبت الماضى (١٤ مايو) التى تحدثت عن بوادر أزمة مع برلين بسبب رفض القاهرة فتح مقر لإحدى منظمات المجتمع المدنى الألمانى المكرسة للدفاع عن الحرية (فريدريش ناومان). وهو الموضوع الذى ظهر على السطح حين استدعت الخارجية الألمانية يوم ١٢ /٥ السفير المصرى فى بون لسؤاله عن تفسير لذلك الموقف. وفهمنا من بيان الخارجية الألمانية أن الهدف من الاستدعاء هو التعبير عن استياء حكومة بون وعدم تفهمها لدوافع الرفض المصرى. رد مصر على ذلك صدر عن سفارتنا فى برلين وأفاضت فى شرحه صحف السبت وكانت خلاصته أن المنظمة الألمانية سبق أن نقلت مقرها فى مصر إلى العاصمة الأردنية عمان، وحين أرادت أن تعيد فتح مكتبها مرة أخرى فى القاهرة فإن الحكومة أرادت أن يتم ذلك فى إطار القانون، إلا أن المنظمة الألمانية لم تقبل بالشروط المصرية. الأمر الذى أحدث تنازعا أدى إلى تعكير صفو علاقات البلدين.
صحف القاهرة فى عرضها للموضوع قدمته بحسبانه خلافا قانونيا. وأشارت إلى أن المنظمة الألمانية حين غادرت مصر إلى الأردن، لم يكن ذلك بطلب من الحكومة المصرية. وإذا ما أرادت أن تعيد فتح مكتبها فى القاهرة، فإن ذلك ينبغى أن يتم فى ضوء الشروط المقررة فى قانون الجمعيات والمؤسسات الأهلية الذى ينظم عمل المنظمات غير الحكومية.
الشق القانونى فى الموضوع فيه كلام كثير، إلا أننا لا نستطيع أن نغض الطرف عما هو سياسى فيه، خصوصا الأسباب التى دعت المنظمة المدافعة عن الحرية إلى الانتقال من القاهرة. وهى الخطوة المهمة التى مرت عليها البيانات والتصريحات الإعلامية مرور الكرام. وجاءت متزامنة مع انتقال عدد من المراسلين الأجانب من القاهرة للاستقرار فى عواصم أخرى بسبب التضييق عليهم. ومع قرار إحياء قضية التمويل الأجنبى التى أثيرت فى عام ٢٠١١ واستهدفت ملاحقة المنظمات الحقوقية المستقلة بوجه أخص. وهو ما دفع ١٦ منظمة مصرية إلى التشكيك فى أهداف تلك الخطوة ومخاطبة المفوض السامى للأمم المتحدة فى جنيف بخصوص الموضوع.
ما أريد أن أقوله إن الجزء الغاطس فى قضية منظمة فريدريش ناومان أكبر من الجزء الذى ظهر منها. إذ يظل الموقف من الحريات العامة هو جوهر القضية والعامل الأهم فى الجانب المغيب من القصة. ذلك أن الأمر ليس بالبراءة التى ظهرت فى التناول الإعلامى، لأن أحدا لا يجادل فى ضرورة التزام الجميع بالقانون المطبق فى مصر. لكن حين يستخدم القانون لتضييق الخناق وتسويغ القمع وتبريره فإنه يفقد دوره فى إحقاق الحق وإقامة العدل. إذ فى هذه الحالة يتراجع عنصر البراءة فيه وتفتح الأبواب على مصاريعها للهواجس وإساءة الظن. لذلك أزعم أن الحديث فى الجوانب القانونية بمثابة محاولة للتغطية على المشكلة الأكبر التى تواجه منظمات المجتمع المدنى ومعاناتها من الملاحقة والتنكيل فى مصر لكن صوتها لم يسمع فى الفضاء العام، إلا أنه قدر للمشكلة أن تظهر على صفحات الصحف حين صارت إحدى المنظمات الأجنبية ضمن الضحايا وتصادف أن تلك المنظمة لها حكومة مسئولة عن الدفاع عن حقوق ومصالح مواطنيها.
شاءت المقادير أن تتحدث صحف السبت التى أثارت موضوع المنظمة الألمانية عن قضيتى الباحث الإيطالى جوليو ريجينى والسياح المكسيكيين الثمانية الذين قتلوا جراء قصف جوى استهدفهم أثناء قيامهم برحلة سياحية فى الصحراء الغربية. قضية الباحث الإيطالى معروفة ومشهورة، ومازالت السلطات الإيطالية التى دخلت على الخط بقوة تشكو من عدم تعاون الجهات الأمنية المصرية فى سبر أغوارها وتحديد الفاعلين فيها ومحاسبتهم. إلا أن حادث السياح المكسيكيين الذى وقع فى خريف العام الماضى (٢٠١٥) كاد ينسى بسبب قلة المعلومات المنشورة عنه، إلا أننا فوجئنا فى الخبر المنشور يوم السبت بأن السلطات المكسيكية عبرت عن عدم رضاها بدورها عن تعاون القاهرة فى قضية السائحين الثمانية خصوصا فيما تعلق بمحاسبة المسئولين عن قتلهم.
القاسم المشترك بين الحادثين يتمثل فى انتقاد موقف جهات التحقيق والأمن الذى وصف بأنه غير «متعاون». كما أنهما يشتركان مع قصة المنظمة الألمانية فى أن كلا منهما يعبر عن واقع متكرر ومسكوت عنه فى مصر. لكنه أصبح خبرا واحتل مكانه على الصفحات الأولى للصحف، حين تبين أن الضحية غير مصرى وتبنت حكومته قضيته.
إذا جاز لنا أن نتصارح فى هذه النقطة فلا مفر من أن نقرر بأن تعذيب الباحث الإيطالى وقتله يصدمنا حقا لكنه لا يفاجئنا. وقوائم ضحايا التعذيب والاختفاء القسرى بين المواطنين المصريين تشهد بأن سلوك الأجهزة الأمنية فى هذا الصدد له سوابقه التى انتقدتها المنظمات الحقوقية المستقلة احتجاجا على ما جري فيها. كذلك الحال مع السياح المكسيكيين الثمانية، لأن صحفنا تتحدث بين يوم وآخر أن قصفا من الجو (يسمى «تصفية») لعشرات من الناس الذين تصفهم البيانات الرسمية بأنهم إرهابيون أو تكفيريون، دون أن نتعرف على هوياتهم الحقيقية أو جرائمهم. كما أننا لا نعرف ما إذا كان القصف كان صوابا أو خطأ، وكان قد أعلن رسميا أن قصف المكسيكيين تم بالخطأ، الأمر الذى يحتمل تكرار ذات الخطأ مع المصريين، وهو ما لم يتيسر للمجتمع أن يتثبت منه. ومن ثم سكت عليه الجميع.
شىء مؤسف حقا أن تشوه صورة مصر فى الخارج جراء استشراء الممارسات فى الداخل. ويقترن الأسف بالحزن حين يشعر الضحايا المصريون أن حقوقهم كان يمكن أن تحترم وتصان لو أنهم كانوا أجانب.