بقلم فهمي هويدي
قرأت أن عمدة مدينة ميلواكى بولاية ويسكونسن الأمريكية قرر حظر تجول المراهقين بالمدينة بعد الساعة العاشرة مساء. واستهدف بذلك وضع حد للشغب الذى انتشر فيها احتجاجًا على التفرقة العنصرية ضد السود. وهو ما ذكرنى على الفور بمشهد المراهقين وهم يلعبون كرة القدم ساعة الفجر تحت بيتى. وكنت قد نقلت الشكوى يومًا ما إلى ضابط المباحث الجنائية فى الحى، فكان رده أنه يعانى من نفس المشكلة ولا يجد لها حلًا. ثم علمت من آخرين أن الظاهرة أصبحت بمثابة وباء انتشر فى مختلف أحياء القاهرة. فقد عزف الشبان عن النوادى، سواء لأنهم أصيبوا بالملل أو أنها لم تعد تجذبهم بأنشطتها المحدودة، أو لأنها تغلق أبوابها عند منتصف الليل. وهو الموعد الذى يبدأ فيه كثيرون نشاطهم. إذ تهدأ الحركة فى الشوارع. ويزداد الطقس لطفًا فى أشهر الصيف.
من نافذة بيتى أطل عليهم فأراهم يتضاحكون وأحيانًا يغنون ويرقصون على أنغام الموسيقى أو يتشاجرون ويتضاربون. وأحيانًا يتبادلون اللعب بكرة القدم. ولا يخلو الأمر من مرات أراهم فيها يوزعون المخدرات فيمن بينهم.
ما يدهشنى أن تلك التجمعات مستمرة طوال أشهر السنة، فلا يردع أفرادها شتاء ولا تزعجهم الرياح أو الأمطار أو يعتبرون لكل فصل من الفصول «الأنشطة» والهوايات التى تناسبه. وإن كانت تلك الأنشطة تتعدد وتبلغ الذروة خلال عطلة الصيف الذى نحن بصدده. أستغرب أيضًا أن يقضوا أوقاتهم طوال الليل فى حلقات على النواصى تضم خليطًا من المراهقين الشبان والفتيات. دون أن يسأل عنهم أهل أو تنصحهم الشرطة بالكف عن إزعاج السكان، أو حتى يعترض سكان الحى على وجودهم اليومى. حتى يبدو وكأن الأهل استقالوا من مهمة نصح أبنائهم وبناتهم، والشرطة باتت مشغولة بالأمن السياسى وتركت الأمن الاجتماعى للناس أما السكان العاديون فقد حلت بهم درجة من السلبية، بحيث ما عادوا يعتنون بما يجرى خارج جدران بيوتهم.
فى حدود علمى فإن الظاهرة ليست مقصورة على بعض أحياء القاهرة دون غيرها، لكنها صارت ظاهرة انتشرت فى العديد من المدن المصرية، معبرة عن شكل من أشكال «التطرف» فى اللهو والعبث. هل الحل فى صدور قرار يحظر التجول للمراهقين بعد توقيت معين فى الليل؟ ــ لا أظن أن ذلك ممكنًا أو مجديًا. لأن العمدة الأمريكى حين فعلها فى ميلواكى فإنه أراد أن يمنع أفعالًا مخالفة للقانون. أما هؤلاء المتنطعون على النواصى (فى الجزائر يسمونهم «حطيط» والكلمة دخلت القاموس الفرنسى، لأنهم يقفون ملتصقين بالحوائط والجدران) هؤلاء يمارسون حريتهم فى العبث، لكنهم يسيئون استخدام تلك الحرية.
إذا أردت تكييفًا لموقفهم فأزعم أنهم ظالمون ومظلومون. هم ظالمون لأنهم يسببون إزعاجًا للسكان، ومظلومون لأنهم لم يجدوا وعاء يستوعبهم ولا أسرًا ترشدهم ولا سلطة تردعهم أو توقفهم عند حدهم ولا سكانًا ينهرونهم ويحتجون على ممارساتهم.
إذا صح ذلك التحليل فمعناه أن التعامل الرشيد مع الظاهرة تتوزع مسئوليته على جهات عدة تتراوح بين الأسرة والمجتمع والسلطة. لكن مشكلة التطبيق تكمن فى أن السلطة هى الجهة الوحيدة المحددة، أما الأسر والمجتمع فهى مساحات شاسعة يمكن مخاطبتها ويتعذر تحديد طرف معين يوجه إليه الخطاب. إلى جانب ذلك ففى القانون الجنائى مادة صريحة تعاقب على إزعاج السلطات وتعتبره من جرائم أمن الدولة أما إزعاج المجتمع فلا نص صريحًا بخصوصه، والنصوص القانونية التى تتعلق بالضوضاء تعاتب أكثر مما تعاقب، ذلك أنها تغرم المتسبب فى الضوضاء بمبلغ لا يتجاوز ٢٥ جنيهًا أى ما يعادل دولارين تقريبًا. وهو ما يسوغ لنا أن نقول إن المشرع اعتنى بإزعاج السلطة ولم يكترث كثيرًا بإزعاج المجتمع. وفى الظرف الراهن بوجه أخص فإن جهد كل أجهزة الدولة منصرف إلى وضع حد لإزعاج السلطة والنظام، أما ما يخص المجتمع فهو متروك إما لأهله أو مؤجل حتى إشعار آخر. وعديدة قصص الذين يبلغون عن سرقة سياراتهم لأقسام الشرطة فيطلب منهم أن يتولوا الأمر بأنفسهم، أو ينصحون بمخاطبة أناس معينين من الأهالى لهم صلتهم بعصابات السرقة. وليس مستغربًا والأمر كذلك ألا يجد المواطنون وسيلة لاستنفار أجهزة الأمن وتحريكها سوى إبلاغها بأن الفاعل فى أى جريمة أو المجتمع فى أى مناسبة له صلة بالإرهاب. وفى هذه الحالة وحدها يلقى القبض على المتهم ولا يظهر له أثر بعد ذلك.
إذا أردنا أن نتصارح أكثر فيتعين أن نعترف بأن القانون عادة ما يكون عاكسًا لواقع اجتماعى معين بقدر ما أن الدستور يعبر عن خرائط الواقع السياسى. لذلك فإن ضعف مجتمعاتنا منعكس على القانون الذى يعتبر إزعاج السلطات جناية فى حين أن إزعاج المجتمع مجرد مخالفة يصعب إثباتها.
سنحتاج إلى وقت طويل حتى تبصر الأسر بمسئولياتها ويتخلى الناس عن سلبياتهم بحيث يصبحون أكثر إيجابية. وإلى أن يحدث ذلك فلا يبقى أمامنا سوى أجهزة السلطة التى يمكن أن تلجأ إلى الزجر والردع. وإذا كانت تتحرك لفض المظاهرات السلمية التى تعبر عن الاحتجاج السياسى وتحيل النشطاء إلى المحاكم العسكرية، فلماذا لا تحاول أن تفض بالنصح والحسنى تلك التظاهرات اليومية التى تؤرق السكان وتسبب لهم إزعاجًا مستمرًا. ولا أرى غضاضة من فرض حظر التجول للمراهقين بعد منتصف الليل مثلًا فى بعض الأحياء التى تضج بالشكوى من تجمعاتهم. شريطة أن يكون ذلك آخر الدواء، الذى تسبقه مساعٍ أخرى للنصح والتوجيه والزجر. وذلك لن يريح السكان وحدهم ولكنه سيحمل إليهم رسالة تطمئنهم على أن أجهزة الأمن تسعى لحمايتهم أيضًا لا تكتفى بحماية النظام وحده.