بقلم فهمي هويدي
لم أصدق ما سمتعه حين أشار محدثى إلى رجل يرتدى ثوبا أزرق اللون جلس فى كشك جانبى وقال إنه من كبار رجال التربية والتعليم السابقين. لم أفهم إلا حين أضاف أن صاحبنا أحيل إلى التقاعد فانتهى به الحال أن صار فرد أمن يقضى فى كشك الملاحظة ١٢ ساعة يوميا. ازدادت حيرتى فقال إنه أمضى ٤٠ عاما فى مهنة التدريس وظل يؤدى عمله كأحد المربين الأفاضل إلى أن صار «موجها أول» فى مادته، وتجاوز راتبه الشهرى ثلاثة آلاف جنيه. إلا أنه حين بلغ سن التقاعد أصبح يتقاضى معاشا فى حدود ١٢٠٠ جنيه. وبعدما ترك الخدمة فإنه لم يستطع أن ينفق على أسرته وأبنائه الذين يدرسون فى الجامعة. ورغم أن زوجته موظفة بدرجة مدير عام فى إحدى القرى السياحية، فإن دخلهما الشهرى لم يكن كافيا لتوفير متطلبات معيشة الأسرة. ولأنه بلغ السادسة بعد الستين فإنه لم يجد وظيفة تقبله. وحين ضاقت خياراته تقدم ليعمل موظف أمن فى إحدى القرى السياحية براتب ١٣٠٠ جنيه شهريا، واعتبر أن ذلك المبلغ الإضافى بمثابة النواة التى تسند «الزير» كما يقال.
بعدما سمعت القصة، لم استغرب حين قيل لى إن نموذج الموجه الأول الذى صار «فرد أمن» ليس حالة استثنائية، لأن هناك آخرين من موظفى الدولة المحالين إلى التقاعد صاروا يقبلون بالعمل فى العديد من الوظائف الدنيا. ويظل الانخراط فى فرق الأمن أفضل من العمل فى مجالات النظافة والتحميل وخدمة زبائن المقاهى.
لم تفارقنى الدهشة فرجعت إلى وكيل نقابة المعلمين لشئون المعاشات، الأستاذ إبراهيم شاهين، الذى قال إن ما ذكره الموجه الأول صحيح مائة فى المائة، وإن مذلة ما بعد الإحالة إلى التقاعد، إذا كانت قاسية على رجال التربية والتعليم الذين يؤتمنون على تربية الأجيال الجديدة، ومن ثم يسهمون فى صناعة الغد وإعداد قادة المستقبل. فإنها مشكلة عامة بالنسبة لكل موظفى الحكومة، ذلك أن معاشات هؤلاء تحتسب بناء على أساس مرتباتهم الأساسية التى تعادل فى الغالب ثلث مدخولهم الشهرى. أما الثلثان فهما مقابل البدلات والحوافز والمكافآت وساعات العمل الإضافى. وباستثناء الهيئات أو المصالح الحكومية ذات الأوضاع الخاصة، فإن كل موظف حكومى يخرج إلى المعاش تصبح حياته شديدة العسر، وإذا كان مريضا فإن العسر يصبح بؤسا بعد تركه للخدمة. وفى أجواء تزايد البطالة حاليا فإن عثور الموظف المتقاعد على عمل آخر يصبح أمرا صعبا للغاية، لذلك فإن بعضهم يصبح مضطرا للقبول بأى عمل يسند إليه لينقذ حياته وأسرته من الضنك والانهيار.
علمت من الأستاذ شاهين أن موظفى المعاشات فى وزارة التربية والتعليم وحدها نحو ٤٠٠ ألف شخص. وإذا افترضنا أن كل واحد منهم لديه أسرة تضم خمسة أفراد، حتى إذا كان للأسرة طفلان فقط، فذلك يعنى أن الذين يعانون من المشكلة نحو مليونى مواطن. سألته عن موقف النقابة فقال إنها تحاول إعانة المعلمين بكل السبل، لكن يدها مغلولة ومواردها شحيحة أقرب إلى المعدومة. إذ رغم أنها تصرف للمعلم المتقاعد ١٢٠ جنيها شهريا وهو مبلغ زهيد ومخجل (يعادل عشرة دولارات) إلا أنها كثيرا ما تعجز عن الوفاء بذلك. أما صندوق التأمين والمعاشات فهو يقدم ١٥ ألف جنيه للمعلم كمكافأة نهاية الخدمة. وذلك بدوره مبلغ زهيد نسبيا، خصوصا إذا قورن بالمكافآت التى تمنحها جهات أخرى فى الدولة لموظفيها، وهى تصل فى بعض الأحيان إلى عشرة أضعاف نصيب رجل التربية والتعليم.
وأنا أتحرى القضية صادفت أمرين. الأول أن المشكلة تتجاوز حدود المعلمين لتشمل البحر الواسع لموظفى الدولة. أعنى أن «الضحايا» ليسوا ٤٠٠ ألف معلم فقط ولكن عددهم يتجاوز أربعة ملايين موظف (يعولون عشرين مليون مواطن)، الأمر الذى يصور حجم المعاناة وآثارها الاجتماعية بعيدة المدى. الأمر الثانى أنه فى الوقت الذى تتراجع فيه الأحوال المعيشية لذلك العدد الكبير من أسر الموظفين الآخرين، فإن هناك فئات أخرى من بين موظفى الدولة يتم الإغداق على الرواتب وتضاعف المعاشات بصورة مثيرة للدهشة. ورغم أن ذلك أمر مسكوت عليه فى الحوار العام، فإننى ما تحدثت مع أحد فى موضوع المعاشات إلا وبدأ بالمقارنة بين ما يتقاضاه الموظف أو المعلم بعد بلوغه سن الستين وبين ما يتقاضاه موظف آخر من المحظوظين سواء فى بداية تعيينه أو فى نهاية خدمته ومعاشه. وحدثنى البعض عن الهدايا التى توزع على المحظوظين فى كل مناسبة، وكأن فى خزينة الدولة بئرين، إحداهما فارغة تتعامل معها الأغلبية المسحوقة وأخرى مليئة تغترف منها الأقلية المحظوظة. وتصادف أن قرأت فى هذه الأجواء تدوينة للدكتور نور فرحات أستاذ القانون البارز ذكر فيها أن مرتب أستاذ الجامعة أقل من راتب معاون النيابة. وأنهم يعينون المعيد فى الجامعة بالكاد مقابل ثلاثة آلاف جنيه فى حين أن نظيره يتقاضى ١٢ ألف جنيه.
هذا الخلل الفادح فى أجور ومعاشات موظفى الدولة يشكك فى صدقية شح الموارد، رغم أنها شحيحة بالفعل. إلا أنها فى التطبيق العملى شحيحة على الأغلبية ووفيرة على الأقلية. الأمر الذى يكشف عن خلل يتعين علاجه، وفى هذه الجزئية فإننى أضم صوتى إلى صوت من قال إن المواطن المصرى يحتاج إلى عدل وليس إلى عطف فقط.
بمناسبة شح الموارد والخلل فى الدخول. فلا أعرف مدى صحة الخبر الذى نشرته صحيفة لاتريبيون الفرنسية (عدد ١٦/٨) عن شراء مصر أربع طائرات فاخرة بما يعادل ٣٠٠ مليون يورو. لكننى لا أخفى سعادة بالخبر الذى أذيع فى الوقت نفسه أن رئيسة مالاوى جويس باندا قررت بيع طائرة الرئاسة بمبلغ ١٥ مليون دولار لشراء ذرة وغذاء يطعم مليون شخص. وفرحت حين قرأت أنها قررت بيع ٣٥ سيارة مرسيدس يستخدمها كبار موظفى الدولة لتوفير المبالغ اللازمة لتحسين أحوال الناس. ولست أخفى أننى وجدت فى الخبرين رسالة بليغة يمكن الاستفادة بها والتعلم منها. أما احتذاؤها فهو بحاجة إلى معجزة، إلا أن الله قادر على كل شىء.