فهمي هويدي
حين قصَّت المعلمة المنتقبة بعضا من شعر تلميذتين فى إحدى مدارس الأقصر قامت الدنيا ولم تقعد، وصارت صورة الضفيرة بعد القص تظهر فى الصحف المصرية يوما بعد يوم، أما سيل الأخبار والتعليقات التى تابعت الموضوع واستهجنته فلم يتوقف طوال الأيام العشرة الماضية..
وقد توالت تلك الأصداء بعد معاقبة المعلمة بالخصم من راتبها والنقل من وظيفتها، إلى جانب الفضيحة التى لاحقتها من كل صوب. إلا أن الأقصر شهدت بعد ذلك حادثا أكثر جسامة لم يكترث به الإعلام ولا حرك شيئا من غيرة كتيبة المثقفين مفتوحة الأعين باتجاه واحد. ذلك أن أحد الناشطين الشبان (تقادم الخطيب) المعيد بكلية آداب المنصورة، كان ذاهبا لقضاء العيد مع أسرته فى الأقصر، فاستوقف كمين للشرطة السيارة التى استقلها مع آخرين. وحين احتج على المعاملة غير الإنسانية التى تعرض الجميع لها، فإن ضابط الشرطة استكثر احتجاجه وخصه بوجبة ضرب شديدة الوطأة. وتولى هو وزميل له تهديده وإهانته وتلفيق تهمة حيازة المخدرات إليه.
ثم نقل إلى قسم الشرطة ليتكرر معه مشهد الاعتداء البدنى واللفظى الفاحش. وحين قال للضابط إن ثورة حدثت فى البلد من أجل كرامة الناس، فقد كان الرد إن الثورة وقعت على شاشات التليفزيون، ولم يكتف الضابط بإهانته، وإنما خص أمه بسباب استخدم فيه عبارة بذيئة. وهذه معلومات نقلها تقادم إلى بعض زملائه فى الجبهة الوطنية للتغيير وأوردها زميلنا الأستاذ وائل قنديل فى «الشروق» يوم الجمعة الماضى 26/10.
ليس لدىَّ تحفظ على معاقبة المعلمة التى قصت شعر التلميذتين، كما ذكرت من قبل، لكن السؤال الذى ينبغى أن نفكر فى الإجابة عليه هو: لماذا حظيت واقعة قص الشعر بالاهتمام الإعلامى المبالغ فيه، فى حين لم يكترث الغيورون بواقعة إهانة ركاب الحافلة واعتداء ضابطى الشرطة بالضرب والسب على الأخ تقادم الخطيب؟ وللعلم فإن الجريمة الثانية أفدح من الأولى. ذلك أن تصرف المعلمة المنتقبة يحسب عليها وحدها. وقد تصورت بأنها بما فعلته تريد خيرا للتلميذتين (أغلب الظن أنها كرهتهما فى الحجاب)، أما تصرف ضابطى الشرطة فهو يدين الجهاز بأكمله، فضلا عن أنهما تعمدا إهانة صاحبنا وإذلاله وتلفيق تهمة له. الأمر الذى يعنى أن تصرف المعلمة جريمة فرد وقعت بطريق الخطأ. أما تصرف الضابطين فهو جريمة متعمدة مع سبق الإصرار تعبر عن سلوك شائع فى المؤسسة الأمنية.
لقد عوقبت المدرسة بما تستحق، أما ضابطا الشرطة فلم يحاسبا على ما أقدما عليه، فيما نعلم. وكل الذى حدث أن مدير الأمن حاول إقامة صلح بينهما وبين المجنى عليه، الذى أحسن حين رفض الصلح وأصر على أن يدلى بأقواله أمام النيابة بخصوص الموضوع.
المقارنة بين الحالتين تستدعى ملاحظتين هما:
* إن استنفار الإعلاميين والمثقفين للتنديد بسلوك المعلمة وتجاهلهم لما أقدم عليه ضابطا الشرطة لا تفسير له سوى أن شريحة الإعلاميين والمعلقين أصبحوا يقدمون الصراع الأيديولوجى على كل ما عداه، بما فى ذلك محاولات إهدار قيم النظام الجديد الذى ننشده. كما لو أن أقدم معلمة منتقبة على قص شعر تلميذتين رفضتا ارتداء الحجاب جريمة لا تغتفر، أما إهدار كرامة المواطنين على يد ضباط الشرطة فأمر لا يستحق النظر. بكلام آخر فإن تصفية الحسابات مع كل من ينتسب إلى الإسلام، بإدانته وفضحه، مقدمة عندهم على حق المواطنين فى الكرامة والاعتبار. الأمر الذى يعنى أن تسجيل النقاط واحتساب الأهداف على الخصم الأيديولوجى، يرجح على حماية القيم الإيجابية التى يراد إرساؤها فى ظل النظام الجديد. وهو ما عبرت عنه فى وقت سابق حين قلت إن كراهيتهم للجماعة صارت مقدمة على محبتهم للوطن.
إن علاقة الشرطة بالمجتمع تحتاج إلى إعادة صياغة، بحيث يشكل احترام كرامة المواطن ركنا أساسيا فيها. أدرى أن سياسة قهر المواطن وازدرائه التى استمرت عدة عقود لن تتغير بين يوم وليلة، وتحتاج إلى وقت طويل للعدول عنها. كما لا يشك أحد فى أن احترام الشرطة واستعادتها لهيبتها أمر لا غنى عنه، لكن الشرطة يجب أن تدرك أن احترام المواطن أمر لا غنى عنه أيضا، وأن الثورة قامت بالدرجة الأولى لاستعادة كرامة الوطن والمواطن. وإذ أقر بأن تصحيح تلك العلاقة يتطلب بعض الوقت، إلا أن بدء خطوات التصحيح أمر لا يحتمل التأجيل. فى هذا الصدد فهناك خطوتان ضرورويتان يتعين اتخاذهما على الفور. الأولى محاسبة الضابطين اللذين أهانا ركاب الحافلة واعتديا بالضرب والسب على الأخ تقادم. وحبذا لو وقعت عليهما عقوبة مماثلة لتلك التى أنزلت على معلمة الأقصر ليكونا عبرة لغيرهما.
إلى جانب محاسبة الضابطين، فيتعين على وزير الداخلية أن يصدر تعليمات واضحة وحازمة بمنع التعذيب واحترام حقوق المواطنين وكراماتهم، أفهم أن ذلك كلام مسجل فيما يدرس لطلاب كلية الشرطة، وفى خطب الوزير ومساعديه، لكن ذلك الكلام لم يوقف الاعتداء على حقوق المواطنين فى الأقسام والسجون، لأنه لم يؤخذ على محمل الجد، فضلا عن أن القيادات الأمنية هى التى كانت تأمر بالتعذيب والاستنطاق بكل السبل.
إن استمرار الاستقطاب فى مصر، يدفعنا بقوة لأن نمضى بعيدا على طريق الندامة
نقلاً عن جريدة "الشروق".