فهمي هويدي
لا نريد أن نسرف فى الحديث عن المؤامرة على الرئيس بما قد يشغلنا عن المعلوم بالمجهول. وعن الحقائق بالأوهام والظنون، ويدفعنا فى نهاية المطاف إلى الاستغراق فى تحرى ما يدبره الآخرون لنا، والانصراف عن النظر فيما فعلناه بأنفسنا.
علما بأن هذا الأخير يكون أحيانا من الجسامة بحيث إنه يهوِّن الأمر على المتآمرين أو أنه يعفيهم تماما من بذل أى جهد، لأنه يحقق لهم مرادهم دون أن يبذلوا فى ذلك جهدا يذكر. وذلك منطوق يحتاج إلى بعض التفصيل.
أرجو ابتداء أن تكون قد لاحظت أننى دعوت إلى «عدم الإسراف» فى الحديث عن المؤامرة، ولم أتحدث عن تجاهلها أو نفى وجودها من الأساس. وإنما رجوت أن نعمل لها حسابا بعد أن نعطيها حجمها الطبيعى، بحيث لا نتسرع فى إرجاع كل ما نصادفه من نوازل إلى تأثيرها، الأمر الذى يحولها إلى مشجب نعلق عليه عثراتنا وخيباتنا لكى نتهرب من المسئولية من ناحية، ولكى نقنع أنفسنا وغيرنا بأننا ضحايا كتب علينا أن نظل مستهدفين دائما من ناحية أخرى. بكلام آخر، فإننى أرجو أن نتفق على أن المؤامرة موجودة حقا، لكننا لا نستطيع أن نحملها بالمسئولية عن كل ما يحل بنا من شرور.
إننى أفهم أن يتآمر عليك خصومك لإلحاق الهزيمة بك، أو لتسجيل أكبر قدر من النقاط والفرص التى يحمون بها مصالحهم. وإذا لم يفعلوا ذلك فإنهم يكونون مقصرين فى الحفاظ على تلك المصالح، مشروعة كانت أم غير مشروعة، لكن الذى لا أفهمه أن تضعِّف من حصاناتك وتفرط فيما تملكه من أسباب المنعة، بحيث تيسر على من يتربصون بك أن يخترقوا جبهتك الداخلية ليلحقوا بك الهزيمة، من هذه الزاوية فإن التمييز يغدو مهما بين مساعى الاختراق وبين حالة القابلية للاختراق. فإذا كان الخصم هو الذى يبذل تلك المساعى، فإنه لن يمكن من تحقيق مراده إلا إذا كانت حصونك من الهشاشة بحيث تكون جاهزة للاختراق ومستسلمة لتجلياته.
لن أضرب مثلا بمصر، التى يتواتر فيها الحديث عن المؤامرة هذه الأيام، وسأضرب مثلا بسوريا التى منذ قامت فيها الثورة لا يكف المتحدثون باسم نظامها عن الحديث فى كل مناسبة عن المؤامرة التى تحاك ضدها. وهو كلام لا يخلو من صحة، لكنه من قبيل الحق الذى يراد به باطل. ذلك أنه من الصحيح أن سوريا تتعرض لمؤامرة من أطراف خارجية عدة، حتى قيل لى أنه ينشط على أرضها فى الوقت الراهن أكثر من 1200 تنظيم مسلح معارض، أكثرها يعتمد على التمويل الخارجى. لكن ذلك التآمر الخارجى ما كان له أن يصبح فاعلا فى الداخل، إلا حين مارس النظام الحاكم قهرا واستبدادا بحق الشعب السورى استمر طوال الأربعين سنة الماضية (منذ تولى الرئيس حافظ الأسد السلطة فى أعقاب هزيمة عام 1967). ومن الثابت أن الثورة الراهنة خرجت من رحم الغضب الشعبى ولم تبدأ بمؤامرة، ذلك ان شرارتها انطلقت من درعا حين ذهب ممثلو النظام بعيدا فى إذلال وإهانة أهالى تلاميذ إحدى المدارس بعدما كتب بعضهم على جدران المدرسة عبارات انتقدت النظام، فألقى القبض على التلاميذ وعذبوا ونزعت أظافرهم وقيل لأهاليهم صراحة انسوهم، وإذا لم تستطيعوا إنجاب غيرهم فهاتوا نساءكم لنقوم نحن باللازم! ــ وكان طبيعيا أن تثور ثائرة القوم، وكلهم ينتسبون إلى عشائر لها كبرياؤها وكرامتها. ولأن الإذلال كان عاما الأمر الذى هيأ التربة المناسبة لانفجار الغضب، فإنه ما إن لاحت شرارة الثورة فى الأفق حتى انتفض الشعب فى أنحاء البلاد على النحو الذى رأيناه، أما التدخلات الخارجية فإنها تمت فى وقت لاحق، وحاولت ان تستفيد من الغضب الشعبى لتوظفه لصالح مخططاتها، التى ترفضها أغلب قوى المعارضة. وهو أمر ليس مستغربا، لأنه إذا كان النظام قد تصدع وأصبح مؤهلا للسقوط فمن الطبيعى أن تسعى الأطراف صاحبة المصلحة إلى تأمين مصالحها، خصوصا فى ظل ما يثار من لغط حول هوية النظام الجديد والتأثيرات المتوقعة على جغرافية البلد والشائعات التى تتردد بخصوص تقسيمه.
إذا عدنا إلى الحالة المصرية فينبغى أن يكون واضحا فى الأذهان أنه إذا كان تغير النظام فى سوريا من شأنه أن يغير من خرائط المشرق العربى، فإن التغير فى مصر لابد أن تكون له تداعياته فى المنطقة العربية بأسرها. بل لعلى لا أبالغ إذا قلت إنه إيذان بإحداث تغيرات تهدف الشرق الأوسط كله. ولذلك فمن العبط والسذاجة أن يظن أحد أن الدول المهتمة بالمنطقة ــ على الأقل الدول الغربية وإسرائيل ــ وقفت متفرجة على ما يجرى. وليس سرا أن عواصم تلك الدول تتابع ما يجرى فى مصر ليس يوما بيوم فحسب، بل ساعة بساعة، ليس فقط لفهم ما يجرى ولكن أيضا للحفاظ على ما تعتبره مصالح لها، وللتأثير فى مسار الأحداث قدر الإمكان. وهذا هو الجهد الذى يسميه البعض مؤامرة، ويسميه آخرون تخطيطا لحماية المصالح، وقد يبدو عن طرف ثالث رصدا للفرص وتحسبا لاحتمالاتها. وذلك كله ليس بمقدورنا أن نتحكم فيه أو نوقفه، وإن تعين علينا أن نراقبه ولا نغمض أعيننا عنه. لكن التحدى الأكبر، وما نملكه حقا ومن ثم نستطيع أن نتحكم فيه، هو كيف نحصن الواقع المصرى ونقوى دفاعاته بحيث يصبح قادرا على صد الاختراقات التى تأتى من أية جهة. أما كيف يتحقق ذلك فذلك أمر تطول مناقشته ولأهل الاختصاص كلام كثير فيه يتطرق إلى قضايا الديمقراطية والعدل الاجتماعى والوفاق الوطنى وغير ذلك.
إن هشاشة وضعنا الداخلى، واستمرار احترابنا الأهلى وتراجع الثقة أو تعميق الفجوة بين السلطة والمجتمع، هذه كلها ثغرات تغرى وتشجع على الاختراق. وإذا فتحنا ذلك الباب فإننا لا نستطيع أن نلوم الداخلين، ولكن لومنا ينبغى أن ينصب على الذين فرطوا فيه وضيعوا مفاتيحه.
نقلاً عن جريدة "الشروق"