فهمي هويدي
التقارير التى تخرج من تونس هذه الأيام تكاد تكون استنساخا لنشرة أخبار مصر. فقد نشرت صحف أمس تقريرا عن وقائع ما جرى أثناء الاحتفال الذى أقيم بمناسبة الذكرى الثانية للثورة. وتحدث فيه الدكتور منصف المرزوقى رئيس الدولة. والدكتور مصطفى بن جعفر رئيس البرلمان (الجمعية التأسيسية)، فى حين غاب عنه رئيس الحكومة السيد حمادى الجبالى لأسباب وصفت بأنها صحية. فى الاحتفال الذى أقيم بمحافظة سيدى بوزيد ــ التى انطلقت منها شرارة الثورة ــ. قوبلت كلمات المرزوقى وبن جعفر بمقاطعات من جانب البعض، وبهتافات طالبتهما بالرحيل، وقام آخرون برشقهما بالحجارة، الأمر الذى اضطر سلطات الأمن إلى التدخل لحمايتهما. ومما قاله الدكتور المرزوقى أنه يتفهم غضب الجماهير فى سيدى بوزيد، نظرا لبطء تنفيذ المشروعات التنموية وبسبب الفساد المستشرى الذى اعتبره العائق الأساسى أمام التنمية ليس فى سيدى بوزيد وحدها، ولكن فى بقية المحافظات أيضا. أضاف المرزوقى ان البلاد تمر بظروف صعبة تحول دون تمكين الحكومة من الإسراع فى تحقيق أهداف الثورة وانهاء إرث خمسين عاما من الديكتاتورية. وقال انه خلال الأشهر الستة الماضية استطاعت الحكومة تحديد الداء وخلال الأشهر الستة المقبلة ستشكل حكومته نصف الدواء لشفاء البلاد مما تعانى منه. ورغم هتافات الاستهجان قال الدكتور المرزوقى ان الجميع ينبغى أن يدركوا أنه لأول مرة فى تونس تشكلت حكومة لا تسرق أموال الشعب.
إلى جانب هتافات الغاضبين والنداءات التى طالبت المتحدثين بالرحيل ولجوء البعض إلى الرشق بالحجارة، فإن تحالف اليسار الذى انضوى تحت اسم «الجبهة الشعبية» كان قد دعا إلى مقاطعة الاحتفال بذكرى اندلاع الثورة، ودعا أنصاره إلى تنظيم وقفات احتجاجية فى أنحاء تونس. فى الوقت ذاته ظهرت بشكل مكثف أعلام حزب التحرير (الإسلامى) الذى كان محظورا من قبل. وقادت عناصر اليسار عملية الرشق بالحجارة. كما ذكرت الأنباء ان أعضاء الجبهة الشعبية كانوا قد وزعوا منشورات دعت فيها إلى تحويل الاحتفال إلى «يوم أسود» الأمر الذى أعلن عن نية مبيتة لإفساد الاحتفال. غير أن متحدثا باسم مجموعة اليسار قال انهم دعوا أصلا إلى مظاهرة احتجاجية موازية، إلا أن غضب الجماهير واليأس الذى يعانى منه أبناء المناطق المحرومة، هما اللذان دفعا شهود الاحتفال إلى استهجان خطاب رئيس الجمهورية ورشقه بالحجارة. جدير بالذكر فى هذا السياق أن بعض الغاضبين فى سيدى بوزيد كانوا فى وقت سابق قد هاجموا مقر حزب النهضة وأحرقوه.
الملحوظة المهمة فى هذا السياق ان اللذين تلقيا رسالة الغضب هما الرئيس المرزوقى الذى ينتمى إلى حزب المؤتمر، والدكتور مصطفى بن جعفر الذى يترأس حزب التكتل، وهما يشكلان ضلعا «ترويكا» الحكم التى تضم معهما القيادى فى حزب النهضة ورئيس الحكومة السيد حمادى الجبالى. وهو ما يعنى أن الغضب كان موجها ضد إدارة الدولة بشكل عام وليس ضد حزب النهضة بالدرجة الأولى. وأهمية هذه الملاحظة تكمن فى اننا ظللنا نشيد منذ حلت تباشير «الربيع» بالوفاق الذى أحدثته تونس، ومكنها من ان تقيم نظام ما بعد الثورة على اكتاف أبرز ثلاثة أحزاب فى الساحة، أحدها إسلامى والآخران من الأحزاب العلمانية التى تتباين فى درجة الاعتدال. وتلك صيغة ايجابية لا ريب، تمنينا ان تحتذيها التجربة المصرية لكى لا تصل إلى ما وصلنا إليه من استقطاب حاد. لكن من الواضح أن صيغة «الترويكا»، لم تحل دون استهجان أطراف أخرى لكلام رئيس الجمهورية ورئيس المجلس التشريعى، كما لم تحل دون رشقهما بالحجارة ومطالبتهما بالرحيل. الأمر الذى قد يعنى أن التوافق قد يهدئ أو يرضى بعض عناصر النخبة السياسية، إلا أنه لا يؤدى بالضرورة إلى طمأنة الجماهير وامتصاص غضبها. فالنخب يعنيها الحضور فى المشهد والمشاركة فى القرار السياسى، إلا أن الجماهير تعنيها أمور أخرى لا علاقة لها بشواغل النخب، وهى تتعلق أساسا باحتياجاتها المعيشية ومورد رزقها والخدمات التى تقدم إليها. وتلك رسالة مهمة ينبغى أن يعيها الجميع. فى تونس أو فى مصر أو فى أى دولة أخرى تقع فى ذلك المحظور، الذى تنشغل فيه النخب بمعاركها وحساباتها الخاصة، بما يصرفها عن المعركة الحقيقية التى من أجلها قامت الثورة. ولعلى لا أبالغ إذا قلت إن تلك أم المشاكل فى مصر بعد الثورة، التى بدأت بالشعارات التى عبرت عن حلم الجماهير فى الحرية والكرامة والحياة الأفضل، إلا أن النخب نحَّت تلك الشعارات جانبا واعتبر جانب كبير منها ان معركتها ضد الإخوان وليست ضد الفقر والتخلف ومخلفات النظام السابق. ومن المحزن أن بعض عناصر النخبة ذهبوا بعيدا فى غلوهم إلى حد دفعهم إلى الاستعداد لقبول التحالف مع فلول النظام السابق، الذين ناصبوا حلم الشعب العداء طيلة ثلاثين عاما، للاستقواء به فى معركتهم ضد الإخوان.
لا اعرف كيف استقبلت قيادة تونس بعد الثورة رسالة ما جرى، لكننى أزعم أنها واجبة القراءة فى مصر لأن لدينا غضبا حقيقيا يعشش فى أرجاء مصر ويضغط بقسوة على أهلها، وهو ما لا ينبغى غض الطرف عنه أو التقليل من شأنه.
نقلاً عن جريدة "الشروق"