فهمي هويدي
مشاهدة مصر من خلال التليفزيون ترفع الضغط، وقراءتها فى الصحف تجلب الاكتئاب. كان ذلك شعورى حين غبت عن القاهرة عدة أيام فشاهدتها على الفضائيات، ثم حين طالعت الصحف بعد العودة. وقد أقنعتنى المقارنة بين الحالين أن التليفزيون أرحم نسبيا. لأن المرء إذا أصابه الملل أو الغم فبوسعه أن يضغط على زر «الريموت» لكى يتحول إلى قناة أخرى تريح أعصابه وقد تروح عنه. لكن الأمر مختلف مع الصحف لأنك إذا قلبت الصفحة وانتقلت إلى صفحة أخرى فسوف يلاحقك الغم والنكد بما تقرأ. وإذا ضقت بالصحيفة وألقيتها جانبا ثم التقطت صحيفة أخرى فسوف تفاجأ بنفس الكلام وربما نفس الرسومات الكاريكاتورية. لذلك أقنعتنى التجربة بأن مصر تعيش فى الوقت الراهن أيام المناحة الكبرى. بعدما أصبح النائحون والنائحات يملأون الأفق بشخوصهم وأصواتهم، ويلاحقون المرء حيثما ذهب. حتى إننى حين وضعت أعداد الصحف المصرية التى صدرت خلال الأيام الأربعة التى غبتها، فإنها بدت لى وكأنها سرادق كبير، اصطف فيه طوابير النائحين والنائحات المتشنجين منهم والمتشنجات، جميعهم تنافسوا فى الصراخ والعويل وتفننوا فى التعبير عن الحسرة والأسى، جنبا إلى جنب مع الهجاء واللعان. لم يكن الموقف جديدا، لكن الحشد هو الذى أثار الانتباه، ذلك أن الانطباع الذى يخرج به المرء من مطالعة ثمانى صحف على الأقل فى الصباح، لابد أن يختلف حين يضع المرء أمامه نحو ثلاثين صحيفة دفعة واحدة، تلقى فى وجهه بجرعة من الكآبة لا تفلح أية أدوية موصوفة فى علاجها. يثير الانتباه أيضا أن الجميع يقولون كلاما واحدا بصياغات مختلفة. فهم ينعون حظ مصر «الهباب» الذى قادته إليه الانتخابات، وينددون بالكارثة التى حلت بها، والورطة التى وقعت فيها، والمستقبل الأسود الذى بات ينتظرها، بعدما صبرت طويلا وضحت كثيرا، وظنت أن الفجر قد لاح وأن الأزمة حين استحكمت، واشتدت فإن أوان الفرج قد حل. إلا أنهم ارتأوا أن ذلك بات وهما كبيرا، حيث انتقلت مصر من ظلمات إلى ظلمات، وخرجت من أزمة لتقع فى براثن أزمة أخرى، فصارت كمن تخطى حفره ثم وجد أنه وقع فى بئر.
إذا غضضت الطرف عن اللغة المستخدمة فى الصياح والعويل، خصوصا عن البذاءات والعبارات الهابطة التى يتم التراشق بها، ستجد أن الذين يظهرون على الشاشات يشكلون جناحا من الندابين والندابات. لكن الأهم من ذلك أنك ستكتشف حين تنصت بأذنيك وترى بعينيك أن المجتمع ليس طرفا فى العراك، فلا أحد مشغولا بحاجات الناس وهمومهم، لكن الجميع مشغولون بحساباتهم وطموحاتهم وأنصبتهم، وإصرارهم على هدم الآخر وإفشاله.
ثمة أسئلة يستدعيها المشهد، منها على سبيل المثال: لماذا الكل مستغرق فى النواح والتنديد بالمشكلة، ولماذا لا نسمع أصوات الذين يفكرون فى حلها؟ وهل هؤلاء الأخيرون اختفوا من الساحة أم أنهم موجودون، لكن أصواتهم لا تسمع وسط الضجيج المثار؟ وإلى أين سيقودنا النواح فى نهاية المطاف.. وهل يخدم ذلك الثورة أم أنه يفتح بابا لتسرب عناصر الثورة المضادة، التى قد تستشعر ذات الحسرة ولكنها على المجد والسطان الذى فقدوه، وليس على حلم الثورة الذى لم يتحقق؟
إن النواح والهجاء والملاعنة أمور بوسع أى أحد أن يمارسها، أما معالجة الأزمة وفك عقدها وتقديم حلول مقبولة لها، فهى تحتاج إلى عقل رشيد ونقاء فى السريرة وإخلاص ومحبة للوطن تقدم مصالحه العليا فوق كل اعتبار آخر. ومن غرائب المشهد الذى نحن بصدده أن خطاب النائحين فرض نفسه على الساحة. فصرنا نسمع الانفعال بأكثر مما نسمع لصوت العقل ونتراشق بأكثر مما نتحاور ونتبادل الشتائم والاتهامات بأكثر مما نلجأ إلى الإعذار أو نردد من الحجج. وهى خلفية تدعونا إلى التساؤل عن تفسير لغياب دور الراشدين والغيورين، الذين لا أتصور أنهم جميعا غرقوا فى مستنقع الاستقطاب، حيث أزعم أن عقل مصر أكبر من أن يبتذل إلى ذلك الحد.
فى عام 1921، حين انقسمت مصر أثناء التفاوض مع الاحتلال البريطانى بين سعد باشا زغلول وعدلى باشا يكن وتعددت صور الصدام بين السعديين والعدليين (على النحو الذى سبق ذكره) هب رجالات من مصر لحل الإشكال، من الأمير عمر طوسون والأمير محمد على إلى الشيخ بخيت والسيد البكرى مرورا بالعديد من الشخصيات العامة، وتنافسوا فى محاولة رأب الصدع وتجاوز المأزق، وهذا الذى حدث قبل تسعين عاما نكاد نفتقده هذه الأيام، حتى أزعم أن أهم أسئلة الساعة فى الوقت الراهن هو: لماذا لا نرى حضورا فى ساحة العراك لعقل مصر وأبنائها الغيورين الذين استعلوا فوق الاستقطاب واستهجنوه؟
نقلاً عن جريدة "الشروق"