فهمي هويدي
رأيت مصر البهية فى كنيسة قصر الدوبارة، بذات الوجه المشرق الوضاء والعين الحانية والصوت الندى المملوء بالثقة والمحبة. الذى عرفته فى ميدان التحرير أيام ثورة 25 يناير. وهو الوجه الذى شحب وتغضن بمضى الوقت، حتى صرنا لا نرى فيه غير مصر الواهنة والمحتقنة، التى ملأ الحزن عينيها وبللت الدموع وجنتيها، وتعددت الندوب والجروح فى وجهها. الصورة الأولى كانت لمصر فى عرسها. وفى الثانية صارت مصر ساحة للتراشق والتجاذب والنواح. الأولى كانت للحلم مرئيا على الأرض، والثانية صارت للكابوس الذى أمسك بخناق الجميع.
لقد هزَّنى الشريط الذى رأيته يوم الاثنين الماضى، بعدما صور زيارة إمام مسجد عمر مكرم المطل على ميدان التحرير مع بعض الشخصيات المسلمة لزيارة كنيسة قصر الدوبارة المجاورة، التى احتشد فيها عدد كبير من المسيحيين الإنجيليين لتهنئتهم بمناسبة عيد ميلاد السيد المسيح. كنت أعرف أن المسجد ليس بعيدا عن الكنيسة، وأنهما كانا جزءا من ثورة 25 يناير، حيث كان يأوى إليهما وينام فيهما الشبان الثائرون حين يحل بهم التعب، وكان يعالج فيهما المصابون أو يلوذ بهما الفارون من ملاحقات الشرطة. لم أكن أعرف أن إمام المسجد وراعى الكنيسة ظلا طول الوقت ينامان فى سرير واحد، ويتناولان الطعام من صحن واحد ويشربان المياه من قنينة واحدة.
لم يكن أحدهما مسلما والثانى مسيحيا، وإنما تجاوز كل منهما هويته الدينية، وتحولا إلى ثائرين مصريين يجمع بينهما حلم واحد.
كان دخول مجموعة المسلمين مؤثرا ومهيبا. إذ اخترقوا الصفوف وسط عاصفة من التصفيق المرحب، الذى استمر عدة دقائق إلى أن وصلوا إلى الصف الأول وأخذوا مكانهم فيه. رأيت فى عيون المصفقين لمعانا وفرحة لم أر لها مثيلا منذ فترة بعيدة. وفى حين ظلت أصداء التصفيق تتردد فى جنبات المكان، ارتفعت الأصوات هاتفة «إيد واحدة»، أحدث الهتاف دويا استمر عدة دقائق، الأمر الذى اضطر أفراد المجموعة المسلمة إلى الوقوف لرد التحية والمشاركة فى التصفيق، لم أصدق عيناى حين رأيت دموع فتاة تنساب على خديها تأثرا بالمنظر، وحين لاحظت سيدات فى سن الشيخوخة وقفن يرددن الهتاف بكل حماس، ويلوحن بسواعدهن وهن يقلنها بصوت عال: إيد واحدة.
بهرنى المنظر وظللت اقترب من الشاشة لكى أملأ عينىَّ مما أراه، وربما فى محاولة لا شعورية للانضمام إلى المحتفين والبحث عن مقعد خال للجلوس فيه والاستمتاع بلحظات المشاعر الحميمة والدافئة، دعى إمام مسجد عمر مكرم الدكتور مظهر شاهين ليوجه كلمة إلى المحتشدين فى الكنيسة. الذين تزايد عددهم بمضى الوقت، حين قدمت إلى المكان أعداد أخرى من المسيحيين والمسلمين، قال الرجل كلمة مناسبة قدم فى بدايتها المجموعة التى جاءت معه، وكان فى مقدمتهم المستشار زكريا عبدالعزيز وآخرون لم أحفظ أسماءهم. وظلت عاصفة التصفيق المدوى تقطع كلامه بين الحين والآخر، كلما أتى على ذكر المشترك الوطنى بين المسلمين والمسيحيين. كأن الناس كانوا يريدون غسل أرواحهم من أجواء العراك والتجاذب والتلاسن التى خيمت على الفضاء المصرى خلال الأشهر الأخيرة. حين شوهت ما كان جميلا وقطعت ما كان موصولا، وجرحت ما كان ناصعا وسويا.
بدا المشهد وكأنه جزء من الحلم، الأمر الذى جعلنى أتساءل: أيهما القاعدة وأيهما الاستثناء.
هل هو ما نراه فى الشارع السياسى ويلاحقنا صباح مساء على شاشات التليفزيون موزعا الإحباط والكآبة على الناس. أم أنه هذا الذى رأيته بعينىَّ داخل كنيسة قصر الدوبارة مسكونا بالصفاء والمحبة والأمل. نبهتنى المقارنة إلى أن خطاب الكآبة والمرارة واليأس تتبناه النخبة المحتشدة وراء الأبواق والمحتكرة لمنابر التعبير وبرامج التليفزيون، أما رسالة الصفاء والمحبة والأمل فهى التعبير الحقيقى عن مشاعر الناس العاديين، الذين ليسوا طرفا فى المشاحنات والضجيج، ويشغلهم مستقبل الوطن وليس الثأر من أى طرف أو الانتصار لأى طرف ضد آخر.
تمنيت أن يظهر شريط الفيديو على أكبر عدد من القنوات الفضائية، وأن يتم بثه مرات عديدة كل يوم، لتذكير الناس بأن جذوة الحلم لم تنطفئ بعد، وأن فى مصر محبة وصفاء ومشاعر حميمة لم تنهزم أمام حملات الكآبة والتسميم أو رياح النفور والبغض.
قبل مشاهدة شريط الفيديو كنت قد قرأت خطبة الجمعة التى ألقاها عن فضائل مصر الشيخ محمد العريفى فى أحد مساجد الرياض. ورغم أننى وجدت فيها إنصافا غاب عن أذهان كثيرين، إلا أننى استشعرت نوعا من الحزن لأننى وجدته يتحدث عن مصر التى كانت، وهو شعور تبدد حين شاهدت ما جرى فى كنيسة قصر الدوبارة، الأمر الذى أقنعنى بأن مصر لا تزال محتفظة ببهائها، لكن مشكلتها تكمن فى الأصباغ المزيفة التى يلونون بها وجهها وفى الواجهات المفروضة التى تجثم على أنفاسها.
إن ذهاب إمام وخطيب مسجد عمر مكرم إلى كنيسة قصر الدوبارة الإنجيلية وجه رسالة بديعة نتوق إلى استحضارها، ولست أشك فى أن الرسالة كان يمكن أن تصبح أفضل لو فعلها قادة حزب الحرية والعدالة مع الكنيسة الأرثوذكسية الذين لم أر لهم صورا ولا حضورا فى المناسبة.
هل هذا حدث فعلا أم أن العتب على النظر؟
نقلاً عن جريدة "الشروق"