فهمي هويدي
تشير الدلائل المتوافرة إلى أن القضية الفلسطينية سوف تستعيد مكانتها ضمن أهم عناوين العام الجديد. حيث ستشهد تطورات مهمة ــ قد تكون حاسمة ــ جراء الصراع بين السعى الإسرائيلى المحموم لإغلاق ملف القضية، وبين الجهد الفلسطينى المقابل لإحيائها.
(1)
أدرى أن مصطلح المصالحة الفلسطينية جرى ابتذاله، بعدما استخدم عنوانا للقاءات ومشاورات عدة، أريد بها تمييع المصالحة وتعطيلها. وبعدما توسطت لأجلها أطراف عرفنا لاحقا أنها لم تكن محايدة أو نزيهة وأنها كانت تتحرك فى إطار المخطط الإسرائيلى الرافض للمصالحة ما لم تتم بعد استسلام غزة وتركيعها. برغم ذلك فإننى أزعم أن الكلام الجاد حول المصالحة سوف يجرى فى العام الحالى، وإن زيارة السيد محمود عباس للقاهرة الأسبوع الماضى كانت بمثابة خطوة فى ذلك الاتجاه. وإذا سألتنى لماذا التفاؤل بما يمكن أن يتم إنجازه هذا العام، فردى أن المتغيرات التى حدثت فى الأجواء وعلى الأرض تعطى ذلك الانطباع، وتوحى بأن أوان الكلام الجاد حول الموضوع قد حل.
ا أنكر أننى كنت أحد الذين يتشككون فى إمكانية وجدوى المصالحة بين حركتى فتح وحماس، لأن الرئيس محمود عباس الذى يفترض أنه يرأس منظمة التحرير ويقود حركة فتح يتبنى موقفا يراهن فيه على الحل السياسى ويستهجن فكرة المقاومة ويرفضها، فى حين أن حركة حماس تستمد شرعيتها من تبنيها لخط المقاومة، وتعتبر السلطة التى تمارسها فى القطاع أحد أوجه المقاومة التى لا تلغى الأوجه الأخرى، بدليل أنها تحتفظ بسلاحها وقد استخدمته فى صد الاجتياحات الإسرائيلية جنبا إلى جنب مع حركة الجهاد الإسلامى وعناصر المقاومة الأخرى. أفهم أيضا أن الطرفين لم يغيرا من موقفيهما، لكن الذى تغير هو المعطيات الحاصلة على الأرض التى تفرض على الطرفين أن يتلاقيا دون أن يتنازل كل منهما عن موقفه. وهذه المعطيات تتوزع على الجانبين الإسرائيلى والفلسطينى، إلى جانب أن هناك متغيرات أخرى مهمة على الصعيدين الإقليمى والدولى ينبغى ألا نغفلها.
(2)
إسرائيليا لم يعد هناك شك فى أن موضوع الدولة الفلسطينية وحل الدولتين استبعد تماما من الأجندة الإسرائيلية. وان كل الوعود التى قدمت والاتفاقات التى تمت مع الفلسطينيين من خلال التفاهمات السياسية، لم تكن سوى فخاخ أريد بها كسب الوقت وتخدير الفلسطينيين لتغطية عملية التهويد والمضى فى الانقلاب الجغرافى والسكانى الذى يحدث على الأرض. وفى الوقت الذى ظلت تتمدد فيه إسرائيل على الأرض فإنها أناطت بالسلطة فى رام الله وجهازها الأمنى الذى ينفق عليه ثلث الموازنة مهمة قمع الجماهير الفلسطينية والحيلولة دون انتفاضها وثورتها فى مواجهة التغول والعبث الإسرائيليين. وهو ما نجحت فيه حتى الآن. إلا أن استمرار ذلك النجاح ليس مضمونا، خصوصا أن مظاهر الغضب الفلسطينى فى الضفة تعددت خلال الأشهر الأخيرة، حتى أصبح الحديث متواترا عن انتفاضة فلسطينية ثالثة وعن ربيع فلسطينى تهب رياحه استلهاما للربيع العربى. وقد تزامن ذلك مع تسارع خطى الاستيطان الذى قيل إنه بمناسبة الانتخابات البرلمانية التى تجرى فى 22 يناير الحالى. وقيل أنه جزء من الرد الإسرائيلى على لجوء السلطة الفلسطينية إلى طلب عضوية الأمم المتحدة وقبول الطلب. وهى سياسة يتوقع لها أن تستمر خلال المرحلة المقبلة، لأن التنافس فى الانتخابات حاصل بين اليمين واليمين وليس بين اليمين واليسار.
لقد أصبح يقيم فى الضفة الغربية الآن 340 ألف إسرائيلى فى المستوطنات التى تم بناؤها، أما القدس الشرقية التى يتردد ذكرها فى خطب القيادة الفلسطينية باعتبارها عاصمة الدولة الفلسطينية المستقلة فقد أصبح يقيم بها نحو مائتى ألف آخرين، يتوزعون على عشرة أحياء استيطانية تمت إقامتها تباعا. إلى غير ذلك من الخطى التى لا تدع مجالا للشك فى أن ثمة قرارا إسرائيليا بشطب فكرة الدولة الفلسطينية من الأجندة الإسرائيلية.
ورغم أن إسرائيل ضامنة لانحياز الإدارة الأمريكية، وضمانها للكونجرس أشد، فإنها تدرك أن الرئيس باراك أوباما سيظل مشغولا بمشكلات بلاده الاقتصادية خلال العامين الأولين من ولايته الثانية، وهو ما قد يفسح المجال أمامها لممارسة العربدة فى المنطقة. وليس معروفا فى هذه الحالة ما إذا كان بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلى سيحاول أن يسترد اعتباره بعمل عسكرى ضد غزة التى تحدَّته وكسرت كبرياءه مرتين. أو ما إذا كان سيحقق رغبته فى توجيه ضربة عسكرية إلى إيران، التى اعتبر مشروعها النووى على رأس تحديات إسرائيل الاستراتيجية. وفى كل الحالات فإن الفترة القادمة ستظل مفتوحة لمختلف الاحتمالات أمام مغامرات اليمين الإسرائيلى، وربما ألقى بعضها بظلالها على أجواء المصالحة.
(3)
المتغيرات على الساحات الأخرى الفلسطينية والعربية والدولية ايجابية ومهمة وتتلخص فيما يلى:
فلسطينيا، أضع صمود غزة فى المرتبة الأولى، وأضع التطور النوعى فى سلاح المقاومة فى مرتبة موازية، وهو التطور الذى مكن عناصر المقاومة من إطلاق صواريخ وصلت إلى تل أبيب، حتى لو لم تصب أحدا فيها، لأن فكرة وصول صواريخ المقاومة إلى عاصمة الدولة العبرية تمثل هاجسا مرعبا يؤرق القيادة الإسرائيلية فضلا عن أنه يصيب فى مقتل فكرة الأمن الإسرائيلى. وأحسب أن هذه النقطة بالذات كانت وراء مسارعة إسرائيل إلى طلب وقف إطلاق النار إثر عدوانها على القطاع الذى حمل اسم «عمود السحاب» (14 ــ 22 نوفمبر 2012)، كما أنها كانت وراء مبادرات حُسن النية التى قدمتها آنذاك، مقابل وقف إطلاق الصواريخ من غزة، فى غير حالات العدوان بطبيعة الحال. وقد أشار إليها الرئيس الأسبق لجهاز الموساد افرايم هليفى فى مقال نشرته صحيفة «يديعوت أحرونوت»، (من تلك المبادرات توسيع مساحة القطاع البحرى أمام شاطئ القطاع لصيد الأسماك والسماح بتجديد أسطول الحافلات والشاحنات فى القطاع، كذلك السماح باستيراد مواد البناء من إسرائيل). ومن الملاحظات المهمة التى ذكرها الرجل أنها كانت المرة الأولى التى أجرت فيها إسرائيل مفاوضات مع حركة حماس لتخفيف الحصار عن غزة، بوساطة مصرية بطبيعة الحال. وكانت إسرائيل فى السابق تخاطب السلطة فى رام الله فقط وترفض الحديث مع حركة حماس.
يضاف إلى ما سبق متغير سياسى آخر له أهميته، يتمثل فى قبول دولة فلسطين عضوا بالجمعية العامة للأمم المتحدة استجابة للطلب الذى قدمه الرئيس محمود عباس ولقى تأييدا واسعا من قبل المنظمة الدولية. وعد ذلك الإنجاز الوحيد الذى يحسب لأبومازن بعد الإخفاقات التى لاحقته فى كل محاولات تفاوضه مع الإسرائيليين حتى لم تعد لديه أوراق يستخدمها أو يراهن عليها.
عربيا، أزعم أن ثورة 25 يناير كانت أهم متغير إقليمى لصالح القضية الفلسطينية. ذلك أنها المرة الأولى منذ توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل عام 1979 التى تبنت فيها مصر موقفا مسئولا ونزيها إزاء القضية، تجاوزت به تلك المرحلة المخجلة التى صار فيها رئيس مصر كنزا استراتيجيا لإسرائيل. وحين طويت هذه الصفحة فإن مصر الرسمية فتحت أبوابها لممثلى المقاومة، وهم الذين لم يروا فى السابق سوى مصر الأمنية دون غيرها. وفى ظل ذلك الوضع المستجد رأينا خالد مشعل رئيس المكتب السياسى لفتح ورمضان عبدالله الأمين العام لحركة الجهاد ورفاقهما فى قيادتى الحركتين، فى لقاء مع رئيس الجمهورية، بعد أن كان محظورا عليهم دخول أى مؤسسة رسمية باستثناء مبنى المخابرات العامة. كما رأينا رئيس الوزراء المصرى الدكتور هشام قنديل مجتمعا مع السيد إسماعيل هنية وغيره من المسئولين فى قطاع غزة.
لم يكن ذلك هو المتغير الوحيد وإن كان الأهم وانما أسهمت تلك الأجواء فى كسر حصار غزة (وليس إلغاؤه) فزار القطاع أمير قطر ثم وفد من وزراء الخارجية العرب، كما أصبحت الوفود والمساعدات تصل إلى غزة دون عقبات تذكر.
هذه الأجواء كان لها صداها فى محيط الجامعة العربية، حيث وافق وزراء الخارجية على اقتراح للأمين العام الدكتور نبيل العربى بإعادة النظر فى قرارات الجامعة السابقة المتعلقة بالتسوية السلمية مع إسرائيل. وفى المقدمة منها المبادرة التى أطلقتها قمة بيروت فى عام 2002 ولم تحقق شيئا منذ ذلك الحين، وقد فهمت أن هذه الخطوة سوف تتلوها خطوات أخرى، ربما كان فى مقدمتها سحب المبادرة وتبنى موقف أكثر حزما فى مواجهة السياسات الإسرائيلية المتصلة بالاستيطان والتهويد.
وليا، كان تصويت 138 دولة فى الجمعية العامة لصالح قبول عضوية فلسطين فى الأمم المتحدة دليلا قويا على تراجع التأييد الدولى لإسرائيل ووقوفها على أبواب عزلة سياسية لم تعرفها من قبل.
يذكر فى هذا الصدد أن الدول الأعضاء فى مجلس الأمن ــ باستثناء الولايات المتحدة بطبيعة الحال عارضت فى خطوة نادرة المشروعات الاستيطانية الأخيرة التى أعلنت عنها إسرائيل. ونشرت الدول الأوروبية الأعضاء فى المجلس (فرنسا وبريطانيا والبرتغال وألمانيا) إعلانا مشتركا أكدت فيه معارضتها الشديدة تلك المشاريع، ذكرت فيه أنها تشكك فى رغبة إسرائيل فى التفاوض، فضلا عن أنها خطوة غير شرعية فى نظر القانون الدولى. وباسم دول المجلس الأعضاء فى حركة عدم الانحياز (أذربيجان وكولومبيا والهند وجواتيمالا والمغرب وباكستان وجنوب أفريقيا) ندد سفير الهند بقرارات الحكومة الإسرائيلية، وطالب بوقف كل نشاط استيطانى على الفور.
(4)
هذه الخلفية تسوغ لنا أن نقول إن القضية الفلسطينية أصبحت الآن فى وضع أفضل نسبيا. وأن اختراقات حدثت فى الأفق المسدود الذى سرب إلينا إحباطا مستمرا طوال السنوات التى خلت، ولم يمنعنا من الاستسلام لليأس سوى تلك الومضات المضيئة التى كانت تلوح فى الفضاء مع أخبار المقاومة الفلسطينية والصمود الباسل لأهل قطاع غزة
لقد ظل انقسام الصف الفلسطينى هو الثغرة المؤلمة فى المشهد، الأمر الذى عانى منه المسئولون فى حركتى فتح وحماس، وقد أدركوا أن الوقت قد حان لحديث جاد حول المصالحة، تقوم فيه مصر بدور نزيه وفاعل. وإذا صحت معلوماتى فى هذا الصدد فان الدور المصرى المفترض فى هذه الحالة سوف يتجاوز نقل وجهات النظر ومحاولة التقريب بينها، إلى محاولة بلورة مشروع محدد للمصالحة يقدم إلى الطرفين، يسترشد بوجهة نظر كل طرف ومقترحاته. والسيناريو المفترض فى هذه الحالة يقضى بأن يطالب كل طرف بتقديم رؤيته ومقترحاته إلى الوسيط المصرى، الذى سيتولى دراسة ما يتلقاه ويستخلص منه مشروعا يكون ملزما لفتح وحماس معا. كأننا بصدد الدخول فى شىء أقرب إلى التحكيم الذى يرتضى فيه طرفان الاحتكام إلى ثالث موثوق فيه، ويمكِّن هذا الأخير من الاستماع إلى حجج كل طرف على حدة. وبعد مناقشتها يصدر الحَكَم قراره الذى يلزم الطرفين.
حين سألت فى التفاصيل، قيل لى إن المشاورات لم تدخل بعد طور بلورة الأفكار، وإن لقاء تمهيديا تم بين أبومازن وأبوالوليد، سيطلب بعده من كل طرف أن يقدم مشروعه، لتدور العجلة بعد ذلك إيذانا بميلاد المصالحة المرجوة، الذى أرجو أن تكسر الشعور بالتشاؤم من رقم 13 المعلق على جدران العام. إلا أن أبوالوليد يبدو أكثر تفاؤلا لأننى سمعت منه فى الدوحة قبل أيام قوله إن العام الجديد لن ينتهى قبل أن تتم المصالحة ــ قولوا إن شاء الله.
نقلاً عن جريدة "الشروق"