فهمى هويدي
أخشى أن تكون أجواء اللدد فى الخصام فى مصر الذى اقترن بحالة الانفلات فى الأعصاب وفى الأمن قد أخرجت منا أسوأ ما فينا، على العكس تماما من أجواء الثورة العارمة على الاستبداد والفساد التى أخرجت من الشعب أفضل ما فيه. إذ فى حين لا تعرف الذاكرة البصرية المصرية مسألة «السحل» الذى كنا نسمع عنها ونستغرب حدوثها فى بلد كالعراق مثلا، فإن الصورة وجدت مكانها أخيرا فى وسائل الإعلام المصرية، حتى رأينا سحل فتاة فى ميدان التحرير وآخر فى محيط قصر الاتحادية، كما طالعنا أكثر من صورة نشرتها الصحف للصوص وبلطجية لجأ الناس إلى قتلهم وتعليق جثتثهم فى بعض الأماكن العامة. وقرأنا فى بعض الصحف أن الجماهير أحاطت بالمشهد وظل بعضهم يكبرون ويهللون مرحبين بتأديبهم معتبرين أن القتلى لقوا الجزاء الذى يستحقونه. ليس ذلك فحسب وإنما وجدنا أن قنابل المولوتوف والأسلحة الأوتوماتيكية فضلا عن الأسلحة البيضاء قد أصبحت من أدوات التظاهر المعتادة، ليس فقط فى مناسبات الاشتباك مع الشرطة، وإنما أيضا فى المعارك الأخرى التى تحدث بين الناس العاديين، وحين يحدث ذلك فقد بات مألوفا أن يؤدى إلى ترويع الآمنين، وإحراق السيارات والدراجات البخارية، وقطع الطرق وتهديم البيوت والمحال التجارية التى لا تحطم واجهاتها فحسب، ولكن محتوياتها تنهب أيضا.
فى هذا السياق صرنا نقرأ فى صحف الصباح عناوين من قبيل: أهالى الغربية يقتلون 4 بلطجية بعد سحلهم ــ قرية بالمنوفية قتلت بلطجيا وسهرت خوفا من الانتقام ــ الأهالى يسحلون لصين حاولا سرقة «تاكسى» بمحور 26 يوليو ــ حرب شوارع بين عائلتين فى الدقهلية ــ صلبوا شابين فى قرية كفر غنام ــ معركة 4 ساعات فى شبرا أسفرت عن قتل 3 وإصابة 15 وتحطيم 70 سيارة ــ قصاص شعبى فى سمنود ــ الغربية ترفع شعار «إعدام اللصوص فورا» ــ قتل بلطجية الدلتا استنادا إلى حد الحرابة (الذى لا دخل له بالموضوع)!
هذا الذى يحدث لأسباب جنائية لا يختلف إلا فى الدرجة عما يحدث فى مجال السياسة ، ذلك ان المظاهرات التى بدأت بمسيرات سلمية انتهى أغلبها بممارسات للعنف ظهرت فيها قنابل المولوتوف والخرطوش والسيوف وغيرها من الأسلحة البيضاء، الأمر الذى أدى إلى سقوط قتلى وجرحى بين المعارضين والمؤيدين وبين رجال الشرطة أيضا. ووجدنا أن بعض المظاهرات استهدف تعطيل شبكة المترو وحصار البورصة والبنك المركزى وإغلاق مجمع التحرير وإغلاق ميدان التحرير وقطع بعض الجسور التى تربط بين أطراف القاهرة، ووجدنا المتظاهرين خليطا من الغاضبين للثورة والمتاجرين بها والساخطين على الدولة لأسباب معيشية لا علاقة لها بالسياسة، إضافة إلى البلطجية المحترفين والعاطلين عن العمل وأطفال الشوارع.
من المفارقات ان البلطجة الجنائية تلقى استغرابا واستنكارا، فى حين ان البلطجة السياسية تلقى ترحيبا من بعض القوى السياسية بقدر ما تلقى ترحيبا من جانب العديد من وسائل الإعلام التى لم تر فيها سوى كونها تكثيفا للهجوم على الإخوان وتهديدا لوجودهم فى السلطة. وهو منظور يغيب اعتبارات أخرى تتمثل فى إهدار هيبة السلطة وسمعة الوطن والفوضى التى تؤثر على منظومة القيم السائدة من حيث انها تطرح العنف سبيلا إلى تحصيل الحقوق وتصفية الخلافات، بل وإثبات المواقف.
لماذا أصبح العنف خيارا مطروحا من جانب المجتمع فى مصر؟ هناك عدة إجابات على السؤال منها ما يلى: غياب الثقافة الديمقراطية ــ تراجع قيمة القانون وقيمة التسامح فى المجتمع ــ عجز القوى السياسية عن استخدام لغة الحوار وانحياز بعضها إلى موقف الاقصاء الذى هو اغتيال من نوع آخر، سياسى ومعنوى ــ انسحاب الشرطة وغياب دورها الأمنى ــ ارتفاع منسوب الجرأة فى المجتمع بعد الثورة حتى أصبحت بلا حدود أو سقف ــ عدم وجود رادع حقيقى للبلطجية على اختلاف فئاتهم ــ الغطاء السياسى الذى قدمته بعض القوى لممارسات العنف والتشجيع عليه.
هناك سبب آخر للعنف المجتمعى نبهنى إليه بعض الخبراء يتمثل فى الدور المحيِّر الذى تقوم به بعض عناصر النيابة (للعلم فإن 30٪ من أعضاء النيابة العامة ضباط شرطة سابقون) ــ ذلك ان الأهالى الذين يبلغون عن ممارسات واعتداءات البلطجية يفاجأون بإطلاق سراح المبلغ عنهم، ليتعرضوا بعد ذلك لانتقامهم، ولذلك فإنهم يتولون مهمة عقابهم بأنفسهم على النحو الذى شهدناه. ولا تفسير لذلك السلوك من جانب النيابة سوى ان بعضهم له فى ذلك دوافعهم السياسية، ولذلك فإنهم يعتبرون إطلاق سراح البلطجية وممارساتهم من وسائل المشاغبة على النظام ومن ثم خلخلته وإضعافه.
ان مظاهر العنف الزاحف لها جذور أبعد مما نظن، وحلولها أكبر من مجرد هيكلة الداخلية، ولدى شك كبير فى أن علاقتها بالسياسة أوثق من علاقتها بالأمن
نقلاُ عن جريدة الشروق .