فهمى هويدي
إذا كان القلق على مصر واجبا فى المرحلة الراهنة، فهو على العرب أوجب. ولئن كانت مصر تواجه أزمة فالعرب على أبواب كارثة.
(1)
المنطوق أعلاه خلاصة لمحاضرتين دعيت إلى إلقائهما بالمملكة المغربية، إحداهما بمعرض الكتاب عن الربيع العربى فى الدار البيضاء، والثانية عن سيناريوهات المستقبل فى منتدى للمثقفين بمدينة المحمدية، لم أفاجأ بالقلق الذى عبر عنه كثيرون ممن التقيتهم فى المغرب، فنحن فى مصر نعيش ذات القلق بدرجة أخرى. ذلك أنهم هناك يرون مصر من خلال شاشات التليفزيون التى تعطى للمشاهد الخارجى انطباعا بأن مصر تنتحر، فى حين أن الصورة من الداخل تشى بشىء آخر، خلاصته أن مصر تتعثر فى مسيرتها ولا تعرف بالضبط إلى أين هى ذاهبة وسط الأنواء التى تضربها من كل صوب.
وجدت أن هناك تداخلا فى التقييم بين الثورة والحكم. وسواء كان ذلك متأثرا بالحملات الإعلامية التى ما فتئت تنفر الناس من الثورة وتنسب إليها كل نقيصة، أو أنه كان طغيانا من جانب أخبار أزمة الحكم أنسى الناس ما أنجزته الثورة. فالشاهد أننى وجدت من المفيد أن أذكر السامعين بأن الثورة لم تنه حكم الفساد والاستبداد فقط، ولكنها أيضا أعادت مصر للمصريين ممن اغتصبوها ونهبوها. ثم إنها انهت عصر الفرعون وأطلقت حريات المجتمع. كما انهت حكم الأقلية وأعادته إلى الجماهير، لكى تقرر من جانبها وبكامل حريتها من الأجدر بحكمها.
كان السؤال الذى حاولت الإجابة عليه هو: لماذا تعثر الحكم الذى جاء بعد الثورة؟ فى الرد قلت إن عقود الاستبداد لم تدمر حاضر البلد السياسى والاقتصادى فحسب، وإنما دمرت بصورة تلقائية مستقبله أيضا. وتجلى ذلك فى إقصاء الجميع عن السياسة واحتكارها من جانب جماعة أو فرقة واحدة. تخيرها الرئيس وظل يستخدمها طول الوقت. وكان من نتيجة ذلك الاحتكار أن الطبقة السياسية لم تتح لها فرصة التأهل لإدارة الدولة، فلا هى شاركت فى الإدارة، ولا هى مارست السياسة من حيث هى عمل مشترك للنهوض بالأمة من خلال مؤسساتها المختلفة.
فى ضوء هذه الخلفية أرجعت أزمة الحكم إلى عوامل عدة فى مقدمتها ما يلى: التوتر التقليدى الذى يحل فى أعقاب أى ثورة أسقطت نظاما وسعت إلى إقامة نظام بديل ــ التركة الثقيلة التى خلفها النظام السابق جراء تدميره للسياسة والاقتصاد فضلا عن مؤسسات الدولة والمجتمع ــ الإدارة غير الناجحة من جانب الرئيس محمد مرسى وفريقه ــ الأداء المفتقد إلى النضج من جانب عناصر المعارضة ــ انقسام الجماعة الوطنية ونشوب حرب أهلية باردة بين مكوناتها ــ دور بقايا النظام السابق المتحالفة مع أركان الدولة العميقة ــ الانفلات الأمنى الذى له دوره الأكبر فى التأثير على النشاط الاقتصادى ــ الضغوط الخارجية التى مورست من خلال قنوات عدة كان أبرزها الحصار الاقتصادى والحملات الإعلامية.
أغلب هذه العوامل كان متوقعا ومنها ما كان مفهوما، أما ما كان مفاجئا فقد تبدى فى نهج إدارة الدولة، الذى قلت إنه لم يحقق النجاح المرجو منه. حيث اتسم بالبطء والتردد، كما أنه لم يمارس بالشفافية المطلوبة، الأمر الذى أحدث فجوة بين السلطة والمجتمع، استثمرت فى تعكير الأجواء ومن ثم تعطيل المسيرة. إضافة إلى ذلك فان التردد فى القرارات والنكوص عن الوعود فاقم من أزمة الثقة، الأمر الذى كان له دوره القوى فى حدوث الاستقطاب الذى أوصل الخلاف إلى درجة مطالبة البعض بعودة حكم العسكر مرة أخرى. وكان هؤلاء المطالبون هم أنفسهم الذين هتفوا قبل أشهر قليلة بسقوط العسكر!
لقد أدرك الجميع فى مصر الآن ان الإخوان إذا كانوا قد نحجوا فى تسيير الجماعة خلال العقود التى خلت، فإن النجاح لم يحالفهم فى تسيير المجتمع وإدارة شئونه، وهذا هو جوهر الأزمة الراهنة التى أوصلت مصر إلى حالة أقرب ما تكون إلى الانسداد السياسى. وتلك حالة متقدمة للأزمة، يتطلب حلها درجة عالية من الحكمة والجرأة وبعد النظر. إلا أن شواهد الحال لا توحى بتوافر تلك العناصر، فى الأجل المنظور على الأقل.
(2)
كررت أكثر من مرة أن تلك المثالب تحسب على الحكم وليس على الثورة. وأضفت أن الحكم إذا كان قد تغير أو بسبيله إلى التغير فى بعض الأقطار، إلا أن الثورة تظل أعمق وأبعد مدى بكثير من الحكم. فتجلياتها تجاوزت حدود الأقطار الأربعة أو الخمسة التى تغير فيها الحكم أو تزلزل، تماما كما أن تجلياتها التى ظهرت إلى السطح أقل بكثير من تلك التى استقرت فى الأعماق. وما ظهر على السطح رآه الكثيرون ويتابعه سيل الأخبار والتقارير التى تروج لها وسائل الإعلام ليل نهار. أما ما هو تحت السطح ــ وما أعتبره الأهم والأكثر فاعلية ــ فهو روح التمرد التى سلحت المواطن العادى بجرأة دفعته لأن يرفع صوته عاليا محتجا على القهر والفساد والظلم الاجتماعى.
هذا التمايز دفعنى إلى التفرقة بين ما أسميته بالربيع الصاخب ونظيره الصامت. وقلت إن الصاخب هو الذى أعلن على الملأ وأدى إلى تغيير الأنظمة السياسية فى بعض الأقطار. أما الربيع الصامت فهو ذلك الذى يعبر عن نفسه من خلال وسائل التواصل الاجتماعى التى يتم تداولها فى هدوء، ودون أى صخب معلن، وهدفه إصلاح الأنظمة وليس تغييرها. وهو ما يسوغ لنا أن نعتبرها نموذجا للربيع الإصلاحى وليس الثورى.
فى هذا السياق تبرز الرسالة التى وجهها فى الشهر الماضى الداعية السعودى المعروف الدكتور سلمان العودة، والتى بثها من خلال 64 تغريدة، استهدفت مناصحة النظام ودعوته إلى تحقيق الإصلاح السياسى من خلال إطلاق سراح المعتقلين والكف فى استخدام الأساليب البوليسية فى التعامل مع المواطنين الذين ضاقوا ذرعا بالكثير من الممارسات والأوضاع السلبية، وشاع بينهم الاحتقان جراء معاناتهم من الفقر والبطالة والفساد الإدارى والمالى وتراجع الاهتمام بالصحة والتعليم.
رسالة الدكتور العودة هى الأهم والأبرز فى الآونة الأخيرة. وقد سبقتها فى المملكة رسائل ودعوات عدة للمناصحة، كما أنها ليست الوحيدة فى بابها فى منطقة الخليج، لأن ثمة رسائل مماثلة عبر عنها الإصلاحيون فى سلطنة عمان ودولة الإمارات العربية والكويت والبحرين.
كثيرة هى القرائن الدالة على أن ثمة متغيرا مهما فى الوجدان العربى يتعين الانتباه إليه واستثمار ايجابياته، الأمر الذى يعنى أن ما سمى بالربيع العربى هو بمثابة إعلان عن متغير تاريخى فى المنطقة، يضعها على عتبات طور جديد فى مسيرتها، يتجلى فيه إصرار المواطن العربى على الدفاع عن كرامته وحقه فى المشاركة والعدل الاجتماعى.
(3)
من هذه الزاوية زعمت أن الأمة تواجه بدورها مأزقا يتعين الاعتراف بوجوده والتعامل معه. وهو يتمثل فى أنه فى الوقت الذى تتبدى فى الأفق قرائن ذلك التحول التاريخى، فإن الفراغ يخيم على الساحة العربية. بحيث إن الباحث لا يكاد يرى للعرب رأسا يلتفون حوله أو مشروعا يدافعون عنه. وعند النظر فى الساحة فإنه لا يرى سوى ثلاثة مشروعات أولها تركى والثانى إيرانى والثالث إسرائيلى تقف وراءه الولايات المتحدة الأمريكية، الأتراك يتمددون اقتصاديا، والإيرانيون يتمددون سياسيا والإسرائيليون يتمددون استيطانيا.
لا يقف الأمر عند ذلك الحد، لأن هناك تحولات مهمة تحدث على أرض الواقع توحى بأن المنطقة يعاد رسم خرائطها من جديد، وأنها بصدد الدخول فيما يمكن أن نسميه سايكس بيكو جديدة. وفى الوقت الراهن تتبدى أمامنا الملاحظات التالية:
● العراق يتعرض للتقسيم بعد التهديم الذى مارسه الاحتلال الأمريكى. فالإقليم الكردى انقسم تقريبا ولم يعد أمامه لتحقيق الاستقلال إلا أن يمنع رفع العلم العراقى على منشآته، وان يعلن ذلك على الملأ. ثم هناك دعوة قوية الآن لتقسيم العراق إلى ثلاثة أقاليم واحد للأكراد والثانى للشيعة والثالث للسنة.
● سوريا متأهبة للدخول فى المرحلة ذاتها، خصوصا فى ظل الاهتزازات الشديدة التى أصابت أركان النظام، وفى الوقت الراهن على الأقل فالاستعدادات تجرى على قدم وساق للتحسب لأسوأ الظروف التى قد تؤدى إلى تأسيس دولة علوية على الساحل فى حالة سقوط نظام الأسد. وحسب المعلومات المتوافرة فقد تم نقل موجودات البنك المركزى إلى اللاذقية، ويجرى تجهيز المطار والميناء لهذا الغرض.
● التقديرات متعددة لتداعيات سقوط النظام السورى، لأن ذلك سيحدث تأثيرا مباشرا على موازين القوى فى لبنان، وقد يؤثر سلبا على حزب الله، علما بأن الوضع الجديد فى سوريا سيكون مخاصما لإيران بشكل خاص. ثم إنه قد يشجع السنة فى العراق على الانتفاض ضد النظام. علما بأن تركيا استبقت وتوصلت إلى اتفاق مصالحة مع الزعيم الكردى المعتقل عبدالله أوجلان، كى تضيع فرصة استخدام الورقة الكردية فى إثارة القلاقل فى الداخل التركى (أكراد تركيا حوالى 13 مليونا). ومعروف أن إسرائيل اعتذرت لتركيا وأعادت العلاقات المقطوعة معها منذ ثلاث سنوات، استعدادا لمواجهة موقف ما بعد سقوط النظام السورى. أخيرا فهناك علامات استفهام كثيرة حول وضع إيران فى مرحلة ما بعد سقوط الأسد. واحتمالات تعرضها لضربة عسكرية من جانب إسرائيل لم تستبعد حتى الآن.
● أضف إلى ما سبق ضعف الوضع الفلسطينى أمام التغول والعربدة الإسرائيلية، وأن جنوب السودان انفصل عن شماله، وأن دعوات الانفصال قوية فى جنوب اليمن أيضا، وأن الحركة الأمازيغية تشهد تطورات فى المغرب توحى بأن الإنجازات التى تحققت لها فى الساحة الثقافية (بعد الاعتراف باللغة الأمازيغية فى الدستور المغربى الجديد)، بصدد الانتقال إلى طور التوظيف السياسى.
هذه المؤشرات كافية فى التدليل على أن العالم العربى مرشح للانفراط، وان عملية إعادة تشكيله تمضى فى هدوء، فى حين يبدو العالم العربى لاهيا ومنصرفا عما يجرى.
(4)
فى ظل هذه الخرائط تلوح فى الأفق احتمالات متعددة. إذا قسم العراق وأقيم الإقليم فى الجنوب فإنه سيلحق عمليا بإيران، سواء سقط النظام السورى أم لم يسقط. وفى كل الأحوال فإنه يخشى من تنامى مظاهر المواجهة بين السنة والشيعة فى ظل الخرائط الجديدة، كما أن ثمة حربا مكتومة بين دول الاعتدال العربى الجديد والدول العربية التى شهدت ثورات أسقطت فيها أنظمتها، وهذه المواجهة حاصلة الآن على الصعيدين السياسى والاقتصادى. ثم إنه فى تونس الآن مواجهة بين السلفيين وحركة النهضة كما أن فى مصر توترا بين السلفيين والإخوان، وفى الجزائر ثمة مواجهة بين السلفيين والدولة. ذلك كله غير المواجهة المحتدمة بين التيارين الإسلامى والعلمانى، والتى لها طابعها الحاد فى مصر وتونس وبدرجة ما فى المغرب. وفى الساحة الفلسطينية توقع دائم باحتمالات انفجار انتفاضة ثالثة فى وجه الحكومة الإسرائيلية الجديدة، الأكثر تعصبا وتطرفا.
فى مواجهة هذه الأعاصير المحتملة تتفاهم تركيا مع إسرائيل، وتثور تساؤلات حول احتمالات التفاهم بين طهران وواشنطن، خصوصا أن وزير الخارجية الأمريكى الجديد من دعاتها. وهو تفاهم قد تتوافر له ظروف أفضل بعد خروج السيد أحمدى نجاد فى الانتخابات الرئاسية القادمة (خلال شهر يونيو). وفى حالة تمامه فإن العرب سيصبحون فى موقف أضعف. هذا إذا لم يتم الاتفاق على حساب مصالحهم.
السيناريوهات متعددة، وأخطر ما فيها أنها تتم فى غياب العرب ودون أى اعتبار لمصالحهم، وهو غياب سيظل مستمرا ما استمرت أزمة مصر وتواصل تغييبها، وللأسف فإن المتعاركين فى مصر مستغرقون فى تجاذباتهم وذاهلون عما يمثله ذلك من خطر كارثى على الأمة العربية جمعاء.
نقلاً عن جريدة الشروق