مصر اليوم
دعى وكيل إدارة الشئون القانونية بوزارة الخارجية فى أوائل الثمانينيات لمقابلة الوزير كمال حسن على. وبعد حديث عادى أعطاه الوزير ملفا وطلب منه الاطلاع عليه. حين عاد صاحبنا إلى بيته واطلع على محتويات الملف، اكتشف أنها تتضمن مشروعا كاملا اقترح فيه الأمريكيون عقد اتفاق لاستئجار منطقة لنشاطهم العسكرى فى رأس بيناس على البحر الأحمر. أصيب الرجل بالدهشة والحيرة. الدهشة لغرابة الطلب والحيرة لأن الأمر أحيل إليه لدراسته. لجأ إلى الكمبيوتر لجمع المعلومات عن موقف الدستور المصرى وسوابق استئجار جزء من إقليم دولة لصالح دولة أخرى. وجمع كل تلك المعلومات فى مذكرة صغيرة خلاصتها أن الطلب يتعين رفضه لأنه يخل بسيادة مصر على أراضيها، حيث يقضى بإخضاع الجزء المستأجر لسيادة دولة أخرى. شجعه على ذلك أنه استشعر أن وزير الخارجية لا ينظر بعين الارتياح لإبرام مثل هذه الاتفاقية.
كان مطلوبا من الخبير القانونى والدبلوماسى أن يدرس الموضوع على عجل، قبل أن ينضم إلى اجتماع لمناقشته يشهده الجانبان المصرى والأمريكى. الجانب المصرى رأسه الدكتور أسامة الباز وكان يضم مجموعة من الدبلوماسيين والقادة العسكريين. أما الجانب الأمريكى فقد رأسه «أدميرال» وضم مجموعة من الجنرالات، وحتى لا يلفت اللقاء أنظار أحد فإنه عقد بعيدا عن الأعين فى قصر عابدين. فى الاجتماع الأول تحدث الدكتور أسامة الباز مسترشدا بالملاحظات الواردة فى الورقة. وحرص الأدميرال الأمريكى على أن يبين للطرف المصرى أنهم لا يريدون الانتقاص من السيادة المصرية، مؤكدا على أن إقلاع الطائرات وهبوطها سيكون بعلم السلطات المصرية التى لها أن تطلب إلغاء تسهيلات القاعدة إذا اقتضت ظروفها ذلك.
استمرت الاجتماعات والمناقشات ثلاثة أيام، زار الوفد الأمريكى خلالها بعض المسئولين المصريين، ثم غادر أعضاؤه مصر عائدين إلى واشنطن، دون أن تخطر وزارة الخارجية بأى تطور فى شأن الطلب المعروض. وفهم بعد ذلك أن الطائرات الأمريكية استخدمت مطار رأس بيناس وأن ما أراده الأمريكيون تحقق لهم بغير علم وزارة الخارجية، وأن الاتفاق حول الموضوع تم تمريره بالتفاهم المباشر مع رئاسة الجمهورية وقيادة المؤسسة العسكرية.
(ملحوظة: فى المحاضرة الشهيرة التى ألقاها فى عام 2008 وزير الأمن الإسرائيلى الأسبق آفى ديختر على الباحثين فى معهد الأمن القومى الصهيونى، تحدث عن الاحتياطات التى اتخذتها الولايات المتحدة وإسرائيل لمواجهة أى متغيرات فى مصر، وقال إن من بينها مرابطة قطع بحرية وطائرات أمريكية فى قواعد داخل مصر تتوزع فيما بين الغردقة والسويس ورأس بيناس).
فى مناسبة أخرى أخطر الأمريكيون القاهرة فى صيف عام 1984 بأن سفينة حربية أمريكية تدار بالطاقة النووية (وربما تحمل رءوسا نووية) فى طريقها إلى المحيط الهندى عبر قناة السويس والبحر الأحمر، وتصوروا أن مجرد الإخطار كاف لتمرير السفينة. بعدما أخبروا الطرف المصرى بأنه لا خطورة على البيئة المصرية وقناة السويس من أى تلوث نووى. إلا أن وزير الخارجية المصرية رأى أن يطمئن إلى مدى قانونية هذا الإجراء ومدى سلطة القاهرة فى منع مرور السفينة النووية فى ضوء بنود اتفاقية القسطنطينية التى تعالج المسألة. لأجل ذلك استقبل مدير الشئون القانونية بالخارجية المستشار السياسى بالسفارة الأمريكية الذى طلب منه إصدار مذكرة تسمح للولايات المتحدة بتمرير سفنها وأسلحتها النووية بقناة السويس. إلا أن الخبير القانونى المصرى أبلغه بأن اتفاقية القسطنطينية لا تسرى بالضرورة على السفن الحربية النووية، لأن أى تسرب نووى منها يمكن أن يدمر الحياة فى منطقة الدلتا لعدة سنوات، لذلك يتعين أخذ رأى خبراء الطاقة النووية المصريين ومسئولى هيئة القناة أولا، قبل عرض الموضوع على القيادة السياسية لاتخاذ قرار بشأنه. لكن المستشار الأمريكى قال له باستهتار واضح إن الرئاسة المصرية موافقة على الموضوع، وأن موافقة الإدارة القانونية بالخارجية مجرد إجراء شكلى طلبته واشنطن. تمسك المسئول المصرى بموقفه وأنهى المقابلة، ثم استطلع رأى الجهات المعنية التى عارضت مرور السفينة. من ثم كتب صاحبنا مذكرة أيدت حق مصر فى رفض الطلب. إلا أن ذلك أثار استياء القيادة السياسية، فاتصل به هاتفيا رئيس الوزراء الدكتور عاطف صدقى وأخبره بأن الأمريكيين مصرون على عبور السفينة وطلب منه إيجاد مخرج قانونى تجنبا لحدوث أزمة بين القاهرة وواشنطن. إلا أنه رد عليه قائلا إنه سجل الرأى القانونى والمصلحة المصرية فى الموضوع، وأن القيادة السياسية هى صاحبة القرار بعد ذلك. لم يسترح رئيس الوزراء للإجابة فشكر صاحبنا وأنهى المكالمة. وبعد ذلك بأيام ذكرت الصحف أن السفينة الأمريكية عبرت قناة السويس متجهة إلى المحيط الهندى، ومنذ ذلك الحين أصبحت أمثال تلك السفن النووية تمر بالقناة بغير حاجة إلى موافقة الحكومة المصرية رغم ما يمثله ذلك من مخاطر.
الواقعتان أوردهما السفير إبراهيم يسرى فى كتابه الجديد (تحت الطبع) الذى يسجل فيه رحلته فى وزارة الخارجية. وكانتا ضمن المواقف التى تعرض لها حين كان وكيلا للإدارة القانونية بالوزارة ثم مديرا لها، وقد ذكرهما فى فصل خصصه لمعالم الفساد أثناء حكم النظام السابق، كما رآها من موقعه وبحكم وظيفته. وقد رأيت أن أهديهما للذين تناسوا قبح ذلك النظام حتى أصبحوا يتعاطفون معه ويحنون إليه. وبطبيعة الحال فإن هذا الذى ذكره السفير إبراهيم يسرى لا يرسم معالم الصورة. لكنه بمثابة نقطة فى بحر خذلان تلك المرحلة وصفحة واحدة فى كتابها الأسود.
نقلاً عن جريدة "الشروق"