فهمي هويدي
فى أعقاب حرب عام ٧٣ ــ التى اعتبرها الرئيس السادات آخر الحروب ــ سمح لمهندسى القوات المسلحة سواء كانوا ضباطا أو مجندين بالتصويت والترشح لنقابة المهندسين، وهو ما كان محظورا عليهم فى السابق. وطوال الفترة بين عامى ٧٥ و١٩٨٥ هيمن ضباط القوات المسلحة على مجلس إدارة النقابة، وقد اكتسح المهندس عثمان أحمد عثمان المرشحين لمنصب النقيب فى عام ١٩٨١ لأنه تحالف مع القوات المسلحة التى كانت تحمل رجالها فى حافلات إلى لجان التصويت فى كل مرة لإنجاح الضباط المرشحين، وحين قرر الإخوان دخول الانتخابات بقائمة ضمت ١٧ عضوا فى سنة ١٩٨٥ فوجئ الجميع بأن أصوات القوات المسلحة ذهبت إلى قائمتهم التى نجحت كلها. حينذاك. وهو ما تكرر فى انتخابات النقابة عام ١٩٨٧، التى جرى الاعتراض فيها على تخصيص لجان للانتخابات داخل ثكنات القوات المسلحة، كانت نتائجها بداية النهاية لهيمنة ضباط القوات المسلحة على النقابة، وهو الوضع الذى لم يستمر طويلا، لأن النقابة وضعت تحت الحراسة وجمدت ابتداء من عام ١٩٩٣.
هذه القصة أسوقها لكى أنبه إلى أن السماح للعسكريين بالتصويت يمثل مغامرة كبرى، ليس فقط لأنه سيؤدى إلى إغراق الجيش والشرطة فى أوحال السياسة وإلهاء الطرفين عن مسئولياتهما الوطنية الأصلية، ولكن أيضا لأن نتائج التصويت فى تلك الحالة قد لا تحقق للداعين إليه مرادهم. وأزعم فى هذا الصدد أننا حين نحذر من أن إقحام العسكريين فى ساحة التجاذب السياسى لا يقلقنا كثيرا فيه تأثيرهم على العملية التصويتية، ولكن ما يزعجنا كثيرا هو أثر ذلك على الأوضاع والمهام الوطنية الجليلة التى يفترض أن تنهض بها القوات المسلحة والشرطة. ذلك أن فتح ذلك الباب من شأنه أن يحدث صراعا بين الحقوق والنظم. إذ إن ممارسة حق التصويت ستكون على حساب النظم المستقرة لدى العسكريين فى القطاعين. ولك أن تتصور الأجواء فى داخل القوات المسلحة مثلا حين يتوزع الضباط على القوى السياسية المتصارعة، وحين يحدث ذلك بين الجنود، وكيف يمكن ان يؤثر ذلك على علاقة الطرفين، خصوصا فى ظروف الاستقطاب الحاد المخيم على الواقع المصرى.
ان الذين يتحدثون عن السماح للعسكريين بالتصويت فى الانتخابات فى بلدان أخرى مثل الولايات المتحدة وكندا يتجاهلون الفروق فى الأوضاع الاجتماعية والتحديات السياسية والاستراتيجية بيننا وبينهم، كما أنهم يتجاهلون واقع الإمكانيات والأساليب المستخدمة فى عملية التصويت لدى تلك البلدان ونظائرها فى بلادنا.
لقد كان وزير الدفاع الفريق أول عبدالفتاح السيسى مدركا لمسئوليات القوات المسلحة وواعيا بحدود مسئوليتها الوطنية حين أعلن رفض المطالبات التى دعت إلى تدخل الجيش فى الشأن السياسى، فى حديث صريح وجهه قبل أسبوعين. وأغلب الظن أنه لم يكن يخطر على باله حين حسم الأمر على ذلك النحو أن المحكمة الدستورية ستصدر قرارا يلزم القوات المسلحة بالتدخل فى الشأن السياسى من خلال التصويت فى الانتخابات. ولا بد أن يثير انتباهنا فى هذا الصدد أن يصدر قرار الدستورية بعد أيام قليلة من إعلان الفريق السيسى، ولا أعرف ما إذا كانت تلك مجرد مصادفة أم لا، إلا أن الملاحظة تظل جديرة بالتسجيل فى كل الأحوال، علما بأن انخراط المحكمة الدستورية فى الشأن السياسى يوسع من دائرة الاحتمالات ويفتح الباب لإساءة الظن بذلك التتابع، الأمر الذى لا يستبعد أن يكون قرار إلزام العسكريين بالتصويت فى الشأن السياسى بمثابة رد على إعلان الفريق السيسى رفضه الزج بالقوات المسلحة فى التجاذب السياسى. وهو ما قد يفسر لنا لماذا سكتت الدستورية عن هذا الموضوع حين تلقت مشروع قانون مباشرة الحقوق السياسية فى المرة الأولى، ثم أثارته بعد ذلك فى المرة الثانية، بعدما «تصادف» أن أعلن الفريق السيسى عن موقفه سابق الذكر.
مثل هذه الشكوك لا تأتى من فراغ، لكنها تستند إلى خلفية تسييس بعض الأحكام التى أصدرتها المحكمة الدستورية أكثر من مرة، إضافة إلى ممارسات أخرى صدرت عنها، من قبيل مشاركة اثنين من قضاة المحكمة فى مؤتمر قضائى دولى عقد فى كوريا الجنوبية، ومحاولتهما تحريض المؤتمر ضد الوضع القائم فى مصر. من تلك الممارسات أيضا أن الدستورية جرى تمثيلها فى مؤتمر تدويل أزمة القضاة مع السلطة الذى عقد أخيرا فى القاهرة، فى حين أن المجلس الأعلى للقضاء نأى بنفسه عن ذلك.
الشاهد أننا صرنا إزاء أزمة جديدة تتطلب من عقلاء القضاة والسياسيين أن يتعاملوا معها بحكمة وبعد نظر، تصوب الأخطاء التى وقعت، وتسهم فى مواصلة السير نحو تأسيس النظام الجديد، ومن ثم تحبط محاولات تجميد تلك المسيرة أو إجهاضها.
نقلاً عن جريدة " الشروق "