فهمي هويدي
قرأ فى صحف هذه الأيام استدعاء لأناس والتحقيق معهم فى تهم إهانة القضاء المصرى، لكننى حين قرأت البيان الذى أعلنه قاضى جنح الاسماعيلية هذا الاسبوع فى 23/6 تساءلت: ما العمل اذا صدرت إهانة القضاة عن واحد من القضاة. وذلك اننى وجدت البيان المذكور نموذجا يتجاوز حدود اهانة القضاء لكى يعبر بطريقة مكشوفة وفجة عن اهدار القانون والازدراء به.
وإذا كان لبيان القاضى المذكور من فضيلة وحيدة، فهو انه اضطرنى للعودة الى ما سبق أن درسته فى كلية الحقوق ونسيته بمضى الوقت، ذلك اننى حين تابعت القضية اذهلنى مضمون البيان على نحو شككنى فيما سبق ان درسته منذ عدة عقود، حتى قلت انه ربما تغير شىء خلال تلك الفترة لم ألحظة بسبب بعدى عن ملاحقة التطورات التشريعية فى البلد.
وبسبب ذلك الشك وقبل أن اقلب فى كتبى القديمة سارعت الى الاستفسار من المستشار سمير حافظ رئيس محكمة استئناف الاسكندرية السابق عن المتغيرات التى جعلت القاضى يصدر بيانه على تلك الشاكلة، فكان رده أن ما صدر عن الرجل تتعذر مناقشته لأنه مقطوع الصلة بالقضاء والقانون ولهذا السبب فإنه لا يستحق أن يوصف بأنه «تهريج تمسح فى القانون».
حين رجعت الى ما سبق ان درست وجدت كلاما صريحا فى بديهيات واصول الثقافة القانونية يقرر أن كل محكمة مقيدة بنطاق الدعوى المرفوعة امامها، سواء فى موضوعها او فى الاشخاص المتهمين فيها. وان وحدها محكمة الجنايات و(النقض فى حالة خاصة)، تمتلك حق اقامة الدعوى على اخرين من المتهمين. اذا ما ظهرت وقائع اخرى غير الواردة فى الدعوى الاصلية. وفى هذه الحالة فلمحكمة الجنايات أن تحيل الدعوى الى النيابة العامة لتحقيقها والتصرف فيها.
هذه البديهيات اهدرها واطاح بها البيان الذى اعلنه القاضى. ووجدت تبريرا نسبيا لذلك حين علمت انه كان ضابط شرطة ولكنه استبعد من الجهاز لسبب أو آخر، وبنفوذ والده الذى كان وزيرا سابقا من رجال الحزب الوطنى ألحق بوزارة العدل وأقحم على سلك القضاء، الى ان صار رئيسا لاستئناف الجنح فى الاسماعيلية.
اما كيف وقع ذلك الاهدار والازدراء بالقانون، فإليك الحكاية.
فى عام 2011 قدم احد المواطنين ــ اسمه سيد عطية ــ الى محكمة جنح الاسماعيلية بتهمة الهروب من سجن وادى النطرون، فى حين انه كان قد هرب من سجن دمنهور وحكم عليه بالحبس مدة ثلاثة اشهر. لكن الرجل الذى اتهم فى جريمة عادية ولم تكن له صلة بالسياسة، استأنف الحكم.
ولهذا السبب عرضت قضيته على محكمة استئناف جنح الاسماعيلية، واثناء نظر القضية جرى اللعب فى الموضوع، وبقدرة قادر ترك القاضى الدعوى المرفوعة امامه، وتجاهل تماما قصة الاخ سيد عطية وتفرغ للتحقيق فى مسألة الهروب من سجن وادى النطرون، وهذه القضية المفاجئة لها قصة طويلة كان لبعض وسائل الإعلام وثيقة الصلة بجهاز امن الدولة القديم دورها الرئيسى فى نسج وقائعها. فقد نشرت احدى الصحف حوارا مطولا مع رجل مريب ظهر فى المشهد ادعى انه كان قد ذهب الى سجن وادى النطرون ورأى عملية الاقتحام وهروب النزلاء.
وفى الاقتحام ذكر اسم حماس وحزب الله والاخوان وآخرين. وأورد وذكر قائمة بالاسماء كان بينها واولها الدكتور محمد مرسى. ضيف هذا الحوار الذى «انفردت» به الصحيفة. التقطه برنامج تليفزيونى من الفريق اياه وقدمه فى حوار آخر. وبعد ذلك استدعى الرجل الى جنح استئناف الاسماعيلية وكرر امامها ما سبق أن ردده وهو ذات الكلام الذى ايدته شهادات ضباط جهاز امن الدولة السابق.
هذا الذى فعله القاضى وأراد به تسييس القضية من خلال الاستناد الى معلومات ووقائع ملفقة، هدم به قاعدة التقيد بنطاق الدعوى المرفوعة وتصدى لأمور اضافية بالمخالفة لنص المادة 11 من قانون الاجراءات الجنائية. والتف القاضى على ذلك النص بالاستناد الى نص اخر فى قانون الاجراءات يجيز للمواطن العادى أن يبلغ عن أى جريمة شاهدها.
فى حين أن البيان الذى اعلنه القاضى وذكر فيه اسماء اشخاص وطالب الانتربول بالقبض عليهم، اعطى انطباعا بأنه حقق فى الامر وانتهى الى ثبوت التهمة على اولئك الاشخاص، وهو ذاته «التعدى» الذى حظره عليه القانون. وكانت النتيجة أن القاضى الهمام لم يكتف بإهدار نصوص القانون وانما اصدر بيانا بدا نسخة طبق الاصل من تقارير امن الدولة القديمة، الامر الذى تجاوز به حدود الخطأ الجسيم فى تطبيق القانون الى تشويه صورة القضاء واعتباره بوقا لأجهزة الدولة العميقة المعادية للثورة.
الذى أفهمه أن مثل تلك الاخطاء الجسيمة التى يتورط فيها بعض القضاة تحيلهم إلى
«الصلاحية» لكى تحدد مدى جدارتهم بالاستمرار فيى مواقعهم، إلى جانب أن التفتيش القضائى يفترض انه يقوم بالتحقق من كفاءة القضاة بصورة دورية.
ولست اشك فى أن الغيورين على كرامة القضاة ونزاهته ستكون لهم وقفة تزيل تلك الوصمة التى احدثها بيان قاضى الاسماعيلية، حتى لا تظل نقطة سوداء فى سجل القضاء المصرى.
نقلاً عن جريدة "الشروق"