فهمي هويدي
لا ينبغى أن نسكت على ما يحدث للأقباط هذه الأيام. ولا أستطيع أن أفهم عدم اكتراث المثقفين والسياسيين، ومنظمات المجتمع المدنى فى مصر على تلك الأخبار المزعجة التى ما برحت تتحدث عن ظهور شبح الطائفية فى بعض محافظات الصعيد وفى مقدمتها المنيا وسوهاج. صحيح ان الجميع منشغلون بالعراك السياسى. لكننى أزعم ان البلد الذى ينزف ويدفع ثمنا باهظا جراء الاستقطاب السياسى، لا ينبغى له ان يصمت إزاء ظهور مؤشرات أخرى دالة على حدوث شرخ جديد فى جدار الوطن، يضيف الاستقطاب الطائفى إلى سجل أحزاننا وأوجاعنا.
لست فى وارد التفصيل فى الوقائع التى شهدتها بعض المحافظات، كما اننى لست فى مقام الحديث عن المخطئ والمصيب، لكن ما يشغلنى أمران، الأول ألا يقف المجتمع متفرجا على ما يجرى. الثانى ان نفكر معا فى تحليل وتشخيص أسباب صعود منسوب التوتر الطائفى أملا فى أن يساعدنا ذلك على علاجها عاجلا أو آجلا.
منذ وقت مبكر كنت أحد الذين قاوموا وانتقدوا فكرة توصيف الصراع الحاصل فى مصر باعتباره صراع هويات وليس صراعا حول سياسات. ولكن أصدقاءنا الليبراليين آثروا الانحياز إلى الخيار الأول، وفضلوا منطق العسكريين (الفسطاطين؟) بحيث جعلوه صراعا بين ما سمى بقوى مدنية وأخرى دينية أو إسلامية. وفى هذه الحالة انضم الأقباط إلى المعسكر الأول، حيث لم يعد أمامهم خيار آخر. ومن ثم اعتبروا فى موقف الضد من القوى الإسلامية، وهو ما أحدث شرخا إضافيا فى جدار الوطن سحب حصة معتبرة من رصيد التضامن الإسلامى المسيحى وفكرة العيش المشترك. الأمر الذى فتح الباب للغط حول دور الكنيسة القبطية وموقعها من الصراع الدائر.
لست أزعم أن ذلك كان جديدا على مجتمع المصريين، لان ملف العلاقات الإسلامية المسيحية ظل مسكونا بالمنغصات التى كانت تلوح فى الأفق بين الحين والآخر. لكننا ظننا أن التلاحم الشعبى الجارف الذى ظهر إبان ثورة 25 يناير، وما استصحبه من أمل فى الانتقال إلى طور جديد من احترام المواطنة والالتزام بقيم الممارسة الديمقراطية، وتلك خلفية اعطتنا أملا فى انطلاقة جديدة للجماعة الوطنية نحو تأسيس النظام الديمقراطى المنشود، إلا أن ذلك الأمل ظل يتراجع حينا بعد حين حتى وصلنا إلى ما نحن بصدده الآن.
حين دخلت مختلف التيارات الإسلامية ساحة العمل السياسى، متخلية بذلك عن العنف والعمل السرى، فقد كانت تلك خطوة إيجابية حسبت للثورة. إلا أن ذلك أحدث أثرا سلبيا جانبيا تمثل فى إضفاء الشرعية على بعض الأطراف المتشددة، التى تبنت خطابا أثار مخاوف الأقباط (كما أثار قلق شرائح غير قليلة من المسلمين) ولا ننسى فى هذا السياق دور إعلام الإثارة والتحريض الذى عمد إلى اصطياد أصوات الغلاة وإبرازها بحسبانها تعبيرا عن رؤية مجمل التيار الإسلامى، مما كان له أثره فى مضاعفة المخاوف وترويع الأقباط وارتفاع أصوات الغلاة بين شبابهم.
فى التحليل والتشخيص لا نستطيع ان نتجاهل الطريقة التى أخرج بها انقلاب 3 يوليو الأخير، حين استدعى شيخ الأزهر وبطريرك الأقباط ليكونا ضمن شهود تلك اللحظة. وهو ما أعتبره خطأ ورط القيادات الروحية فى الصراع السياسى الدائر، وأدخلها فى خرائط الاصطفاف فى المجتمع المنقسم، بحيث بدت منحازة إلى جانب طرف ضد طرف آخر فى الجماعة الوطنية، ولم يقف الأمر عند ذلك الحد، لان الأنبا تواضروس أعرب عن ابتهاجه لما جرى، وأدلى بتصريحات عبرت عن الشماتة فى الرئيس مرسى وجماعته، حيث اعتبر فترة حكمه بمثابة كابوس جثم على صدور المصريين. وعندما تحدث بهذه اللغة فانه كان أقرب إلى القيادة السياسية منه إلى القيادة الروحية. الأمر الذى أثار حساسية بعض المسلمين، حتى شاع فى الصعيد أن الانقلاب تم بتنسيق بين قيادة القوات المسلحة وبطريرك الأقباط الأرثوذكس، لإسقاط حكم الإسلاميين.
ولو أن الأنبا تواضروس احتفظ بدور الكنيسة كمؤسسة روحية فرق الصراعات السياسية اليومية، لكان أرشد وأحكم، وليته احتذى فى ذلك حذو البابا شنودة حين تصرف على ذلك النحو الرصين الذى استعلى به فوق حدثين كبيرين أثارا ذعر الأقباط، أحدهما الاعتداء على كنيسة القديسين بالإسكندرية فى آخر أيام حكم مبارك، وما جرى للأقباط المتظاهرين أمام مبنى التليفزيون (ماسبيرو) بعد الثورة.
إن النخبة المنخرطة فى الصراع الدائر حول السلطة مدعوة لان تصرف بعض جهدها لمواجهة الفتنة الطائفية التى يلوح شبحها فى الأفق هذه الأيام. ثم اننى استغرب ان تحرص القيادات الروحية على إثبات الحضور على المسرح السياسى، فى حين نراها غائبة عن مشهد الفتنة الذى نراه الآن.
لست أشك فى أن المسلمين سوف يتذكرون ويترحمون على شهداء مذبحتى الحرس الجمهورى والنصب التذكارى الذين سقطوا خلال الأسبوعين الأخيرين. لكنهم ربما كانوا بحاجة لان يتذكروا ان أخوة لهم فى الوطن لن يشاركوا المسلمين فرحتهم بالعيد لأنهم يعانون من الخوف والحزن.