فهمي هويدي
من مفارقات زماننا وسخريات الأقدار فيه أننا نشهد تنديدا وهجوما شديدا على الشائعات التى تتحدث عن تقسيم مصر، فى حين أن الذين يقودون ذلك الهجوم يرعون بأنفسهم فكرة التقسيم ويكرسونه على أرض الواقع. والفرق بين أحلام المهجوسين بالتقسيم وبين الذين يرعونه ويكرسونه أن الأولين يتحدثون عن مجرد أوهام وشائعات عن تقسيم جغرافى على أساس من الدين والعرق، فى حين أن الآخرين يقيمون على الأرض أسوارا وحواجز نفسية انطلاقا من المواقف الفكرية والرؤى السياسية وربما وظفوا الاختلاف العقائدى فى ذلك.
شاعت فى الفضاء المصرى المقولة التى تتعامل مع المخالفين على قاعدة «لا سلام ولا كلام ولا بديل عن التصفية والانتقام». وهى رسالة باتت تتردد بين الحين والآخر، ليس على ألسنة الشباب المنفعل وقصير النظر فحسب ولكننا سمعناها فى خطاب بعض الكبار الذين لم يسلموا من تأثيرات التعبئة المضادة ورواسب الحساسيات التاريخية. إلا أن الرسالة كانت مباشرة وأكثر وضوحا فى الأغنية التى تقول كلماتها: إحنا شعب وانتو شعب، التى لم تختلف فى مضمونها عن رسالة المتحدث باسم تنظيم القاعدة الذى حدثنا ذات يوم من أحد كهوف «تورا بورا» فى أفغانستان عن «الفسطاطين»، فسطاط الإيمان وفسطاط الكفر، الذى لا سبيل إلى اللقاء بينهما بحكم التناقض الذى لا يمكن تفاديه. ولأنه لا سلام بينهما ولا كلام فالأصل فى علاقتهما هو الخصام والاحتراب. والصراع بينهما فى حقيقته هو صراع وجود، وبالتالى فإن بقاء أحدهما واستمراره مرهون بفناء الآخر.
ليس ذلك فحسب، وإنما إذا دقق المرء فى لغة الخطاب المستخدمة فى صياغة العلاقة بين المؤيدين والمعارضين فى مصر الآن. فسوف يكتشف أنها تعيد إنتاج خطاب التكفيريين الذين ظهروا فى السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضى. وهم الذين روجوا لفكرة «العزلة الشعورية» و«المفاصلة». ومقتضى الأولى أن تكون مع الآخر المخالف فى محيط واحد، لكنك تنأى بنفسك عنه وتحتفظ بمسافة منه. بمعنى أن توجد معه جسدا وجغرافيا ولكن تنفصل عنه نفسيا وشعوريا، حيث تسكن إلى جواره ولكن لا تعيش معه. أما الثانية فإنها تذهب إلى أبعد، حيث تطور تلك العزلة الشعورية إلى موقف يحقق الانفصال الجسدى عن الآخر، ولا يكتفى بالعزلة الشعورية. إن شئت فقل إن المرء فى الحالة الأولى يقيم حاجزا نفسيا مع محيطه، أما فى الحالة الثانية فإنه يقطع الجسور والوشائج التى تربطه به.
الخلاصة أننا نعيش تلك الأجواء التى تروج لرفض الآخر المختلف، الأمر الذى يؤسس لثقافة النقاء الفكرى التى تقيم مجتمع اللون الواحد. وإذا كانت النازية قد اعتمدت فكرة نقاء العرق، التى انطلقت من الاعتقاد بتفوق الجنس الآرى على غيره من الأجناس، وإذا كانت الصهوينية تسعى فى الوقت الراهن لتحقيق النقاء الدينى، بحيث تصبح إسرائيل دولة لليهود دون غيرهم بما يفضى إلى طرد العرب وراء الحدود، فإننا نسير على الدرب ذاته. إذ تتردد فى مصر الدعوة إلى إقامة مجتمع الفكر الواحد التى تبدأ بتخطئة التواصل مع الآخر. وقد رأينا كيف أن البداية كانت تطهير الأجهزة والمؤسسات الحكومية من الإخوان، ثم تطورت بعد ذلك حتى تحولت إلى دعوة لمفاصلتهم وتطهير الوطن كله منهم.
سمعت بقصة السيدة التى قالت لزميلة لها إنها تريد أن تبلغ الشرطة عن وجود واحد من الإخوان فى البناية التى تسكنها. وحين سألت عما إذا كان الرجل قد أقدم على فعل يستحق بسببه أن يسجل فى محاضر الشرطة؟ كان رد صاحبتنا إن الرجل «فى حاله» ولكن انتسابه إلى الإخوان يشكل خطرا يهدد العمارة بأسرها. وما حدث بين الجيران تكرر مع الأصدقاء فى محيط الأسرة الواحدة. وله نظيره فى العديد من مواقع العمل. وهو ما تمثل فى حملة التطهير التى تمت فى بعض الوزارات استنادا إلى الهوية السياسية. وقيل لى إن إحدى المدارس ألغت عقود أربع مدرسات لذات السبب. وفى العديد من المؤسسات جرى الإبلاغ عن الذين تغيبوا عن العمل أثناء اعتصام رابعة حيث اعتبر هؤلاء عناصر من الشعب الآخر غير مرغوب فيه. وليس ذلك أسوأ ما فى الأمر، لأن الأسوأ هو مباركة بعض المثقفين والليبراليين لكل ذلك.
هل سنضطر يوما ما لأن نناقش فكرة إبرام معاهدة صداقة وتعاون مع الشعب الآخر، على أمل أن يوصلنا ذلك إلى تحقيق وحدة الشعبين، فى استعادة لما حققه فرعون مصر الملك مينا. الذى دخل التاريخ بحسبانه موحد القطرين وصاحب التاجين؟
نقلاً عن "الشروق"