فهمي هويدي
أحذر من تعكير العلاقات بين مصر والسودان، لأسباب استراتيجية فى المقام الأول، وإن كنت لا أستحى من الإشارة إلى الأسباب العاطفية أيضا. صحيح أن بيننا مصالح متبادلة. ولكن بيننا أيضا وشائج ليست أقل أهمية من المصالح، بل قد تكون أعمق وأكبر. على الأقل فالمصالح متغيرة وحساباتها كثيرا ما تخضع للأهواء والأمزجة السياسية. لكن الوشائج ثابتة ثبات العرق والدين والعلاقات الإنسانية المتداخلة التى فرضتها الجغرافيا مع التاريخ. ولئن كانت المصالح لها أهميتها فى حسابات النخبة إلا أن الشعوب تعيش الوشائج بغير افتعال أو ادعاء. أعنى أن ما بيننا وبين السودان ليس علاقة انتفاع أو «بيزنس» فحسب، ولكنها علاقات شقيقين يتعاملان على أساس من الندية والمحبة والاحترام.
هذه المرافعة القصيرة أردت بها التذكير وتجديد الدعوة التى لا أمل من تكرارها إلى ضرورة الحفاظ على مكانة وعمق العلاقات مع الأشقاء الأقربين، جيراننا فى السودان وليبيا وغزة، مع الحفاظ على العلاقات الإيجابية مع بقية أعضاء الأسرة من الأشقاء الأبعدين فى مختلف أنحاء الوطن العربى.
ما دعانى إلى التطرق لهذا الموضوع أن بعض رموز المعارضة السودانية فى مكايدتهم لنظام الخرطوم أرادوا انتهاز فرصة عزل الرئيس محمد مرسى، لتوجيه ضربة استهدفت إضعاف الرئيس عمر البشير وحكومته. ورغم أنى لست فى وارد الدفاع عن نظام الخرطوم فإننى أعتبره شأنا سودانيا صرفا. والأساس الذى انطلقت منه تلك المحاولات تمثل فى الترويج لفكرة الربط بين الحكومتين «الإسلاميتين» فى البلدين، والادعاء بأن حكومة الخرطوم مستاءة من عزل الدكتور مرسى. وأنها تبذل مساعى من وراء ستار لحث المجتمع الدولى للتدخل لصالح إعادته إلى السلطة. وفى رأيهم أن حكومة البشير تعتبر ما جرى فى مصر فى 30 يونيو (المظاهرات الاحتجاجية) وفى الثالث من يوليو (عزل الدكتور مرسى) بمثابة إعلان حرب على الإسلام السياسى، الذى تقف حكومة الخرطوم فى صف الدفاع عنه.
الهدف ذاته سعى إليه حزب الشعب الجمهورى الذى يقود المعارضة فى تركيا، حين حاولت قيادته استثمار أجواء عزل الدكتور مرسى وتعاطف رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان معه، استنادا إلى اشتراك الطرفين فى الخلفية الإسلامية، فجاء وفد يمثل الحزب إلى القاهرة وسط أجواء التوتر مع أنقرة، لإضعاف موقف حكومة أردوغان.
رغم الاختلاف فى الظروف بين الوضعين السودانى والتركى، ورغم الاختلاف بين هوية المعارضين فى البلدين، فإن القاسم المشترك بين الطرفين يتمثل فى المراهنة على استخدام الخلفية العاطفية التى ربطت حكومتى البشير وأردوغان بنظام الرئيس مرسى لإضعاف موقف نظامى الخرطوم وأنقرة. وهو منطق يغيب أولوية الحسابات الاستراتيجية الحاكمة فى العلاقات الدولية فى الوقت الراهن. وهى الحسابات التى جعلت القاهرة فى ظل حكم الرئيس الأسبق حسنى مبارك تقترح ضم تركيا كعضو مراقب فى الجامعة العربية، وهى تحت حكم حزب العدالة والتنمية الذى يقوده أردوغان، رغم أن نظام مبارك كانت له معركته مع الإخوان فى مصر.
ليس سرا، وليس عيبا، أن تتعاطف حكومتا الخرطوم وأنقرة مع حكم الإخوان فى مصر، لكن العيب حقا أن تكون الأولوية للعواطف، وليس الحسابات والمصالح الاستراتيجية العليا فى تقرير مصير العلاقات الدولية. خصوصا تلك التى ترتبط بوشائج أهم وأبعد من الانتماءات السياسية أو الميول الدينية.
تهمنى العلاقة مع السودان فى الوقت الراهن. لأنها أكثر حساسية ودقة فضلا على أن حكومة الخرطوم لم تنتقد علنا المتغيرات التى حدثت فى مصر، كما حدث مع حكومة أنقرة. ذلك أن ثمة حرصا سودانيا على توصيل رسالتين. الأولى أن العلاقة مع مصر استراتيجية ولا تتأثر بشكل وانتماءات أنظمة الحكم فى البلدين. والثانية أن السودان ملتزم بعدم التدخل فى الشأن المصرى، وينفى بشدة ما تردد عن شائعات الدعوة إلى التدخل الدولى الذى عانى منه السودان الكثير، وما عاد يرجوه لأى دولة، «خاصة مصر التى تمثل عمق الأمن القومى بالنسبة للسودانيين». والجملة الأخيرة اقتبستها من رسالة تلقيتها بخصوص الموضوع من المستشار عبدالرحمن إبراهيم بالسفارة السودانية بالقاهرة.
لا أعرف ما إذا كانت زيارة السيد نبيل إسماعيل فهمى وزير الخارجية الجديد للخرطوم فى شهر أغسطس الماضى لها علاقة بالملف الذى أتحدث عنه أم لا، لكن الرسالة التى تلقيتها من الدبلوماسى السودانى ذكرت أن المباحثات التى أجراها الوزير المصرى «تجاوزت كل ما حدث فى مصر»، وركزت على أهمية واستراتيجية العلاقة بين البلدين، ومن ثم تناولت آفاق التعاون بينهما على جميع المستويات. وهو ما أحبذه وأتمناه، منوها إلى دلالة توجه الوزير الجديد إلى السودان فى أول زيارة خارجية له، ومحبذا قراره استحداث إدارة جديدة بالوزارة تختص بدول الجوار ــ ليتها تنجح فى أن تجعل مصر والسودان «إيد واحدة».
نقلاً عن "الشروق"