فهمي هويدي
لدىَّ كلمتان بخصوص جريمة كنيسة الوراق التى أفضت إلى قتل أربعة أشخاص وإصابة 18 آخرين، الكلمة الأولى يلخصها السؤال: من فعلها؟ ذلك أننى لا أتصور أن تنشق الأرض فجأة عن اثنين من الملثمين يقومان بإطلاق الرصاص على المشاركين فى حفل الزفاف المقام بالكنيسة، ثم يختفى الاثنان ولا يعثر لهما على أثر بعد ذلك. لقد ذكرت الصحف المصرية أمس أن خمسة من المشتبه بهم يجرى التحقيق معهم فى الجريمة، وتلك خطوة إيجابية لا ريب، لكن المهم أن يقود ذلك فى نهاية المطاف إلى معرفة الفاعلين وتحديد هوياتهم، وهل هم أشخاص مهووسون، أم أنهم ينتمون إلى جماعات معروفة او غير معروفة فى مصر، أم أنهم طرف ثالث لا ينتمى إلى هؤلاء أو هؤلاء ولكن له مصلحة فى تأجيج الفتنة وتوسيع نطاقها فى مصر، بحيث لا تكون مقصورة على الصراع الدائر بين الإسلاميين والسلطة وإنما تمتد لكى تشمل الصراع بين المسلمين والاقباط أيضا.
إننا لم نعرف حتى الآن من حرق الكنائس فى مصر فى اعقاب فض اعتصام رابعة العدوية، بل إننا لم نعرف من فجر كنيسة القديسين فى الاسكندرية فى الاول من شهر يناير عام 2011، وهى الجريمة الغامضة التى اثيرت شكوك قوية حول ضلوع اجهزة الأمن السرية فيها، حيث قيل إن تلك الاجهزة جندت احد العناصر المتطرفة لارتكاب الجريمة وهو اللغط الذى لم يحسم حتى هذه اللحظة، الأمر الذى يعنى ان الشكوك بخصوصه لاتزال قائمة.
إن التقاعس عن تحديد الجناة لا يعنى فقط أن ثمة فشلا امنيا ينبغى تداركه، لكنه أيضا يفتح الباب لإساءة الظن بدور الاجهزة الامنية فى العملية وقد سمعت شيئا من ذلك القبيل من اشخاص اصبحوا مقتنعين ان ما جرى فى كنيسة الوراق يرضى الاجهزة الامنية لسببين أساسيين هما: إنه يرفع من وتيرة التوتر فى البلد ويشد انتباه الجميع إلى ضرورة الاحتشاد لمواجهة «الارهاب»، بما يؤدى تلقائيا إلى صرف الانتباه عن المشكلات الحياتية الاخرى التى فشلت الحكومة فى حلها. السبب الثانى ان عدم تحديد الفاعلين يفتح الباب لاتهام جميع الاسلاميين وفى المقدمة منهم التحالف الوطنى للدفاع عن الشرعية الذى يعد الاخوان اهم فصائله. فى حين ان التحديد ــ إذا تم ــ من شأنه ان يشير بأصابع الاتهام إلى طرف بذاته، كما انه سوف يبرئ ساحة بقية الاطراف وذلك ليس مرغوبا فى الوقت الراهن.
لقد سارعت وسائل الاعلام المصرية إلى استثمار ما جرى سياسيا، فضمت ما جرى إلى حملة الشيطنة وتعميق الكراهية الرائجة هذه الايام. حتى كان العنوان البارز على الصفحة الاولى لجريدة التحرير كالتالى: جريمة الاخوان فى الوراق، وهو ذات الموقف الذى تبنته عدة تعليقات ورسوم كاريكاتورية اخرى.
كلمتى الثانية تتعلق بمصادفة لا تخلو من دلالة. إذ فى الوقت الذى أجرت فيه وسائل الاعلام المصرية تغطية واسعة للضحايا الاربعة الذين قتلوا فى جريمة كنيسة الوراق، كان قد تم التعرف على جثث اربعة اشخاص من المحترقين فى مسجد الايمان بمدينة نصر، وتم دفنهم فى مواكب حزينة صامتة. الاربعة هم: محمود عزب متولى من منيا القمح ــ شرقية ــ اسامة هلال عامر من المحلة الكبرى ــ فكرى المغلاوى من دمياط ــ مصطفى نور الدين فتحى المعداوى وهو مهندس برمجيات خرجت جنازته امس الأول من مسجد الحصرى بمدينة 6 اكتوبر، ليس بعيدا كثيرا عن منطقة الوراق، وهؤلاء الاربعة كانوا ضمن 42 جثة كان قد تم احراقها وتفحمت يوم 14 اغسطس الماضى بعد نقلها إلى مسجد الايمان ضمن 300 جثة اخرى لضحايا فض اعتصام رابعة، وحسبما نشرت الصحف فى الاسبوع الماضى فهناك اكثر من 25 جثة أخرى محترقة مودعة فى مشرحة زينهم منذ نحو شهرين لم يتم التعرف على اصحابها.
كان شيئا جيدا ان يشيع الاربعة الذين قتلوا فى حادث جريمة كنيسة الوراق فى جنازة مهيبة تقدمها المحافظ وحضرها كبار رجال القوم، وان يجرى رئيس الوزراء اتصالا هاتفيا مع بطريرك الاقباط ليقدم اليه العزاء والمواساة. لكنى لم استطع ان انسى جنازات الاربعة الذين احترقوا وتم دفنهم فى وقت متزامن بعيدا عن الأعين والاضواء، ولم استطع ان اتخلص من صور اقرانهم الذين احترقوا فى مسجد الايمان، ولا زملائهم الاربعين الذين احترقوا فى عربة الترحيلات التى نقلتهم إلى سجن ابوزعبل، ولا الثلاثة آلاف الذين قتلوا أثناء فض الاعتصامات وأسقطهم المجتمع من الذاكرة.
لست أشك فى ان المواساة المجتمعية لضحايا حادث اطلاق النار على رواد الكنيسة خففت بصورة نسبية من فجيعة اهليهم، لكننى لم افهم ذلك التجاهل الذى يصل إلى حد الشماتة والازدراء لضحايا فض الاعتصامات مع انهم ايضا مواطنون مصريون لهم حقهم فى الكرامة حتى اذا كانوا معارضين، وإذا نزعت عنهم السياسة تلك الكرامة وهم احياء فإن الاخلاق الانسانية ينبغى ان تحتفظ لهم بكرامتهم وهم أموات.
نقلاً عن "الشروق"