فهمي هويدي
استقالة عميد ووكلاء كلية هندسة القاهرة من مناصبهم احتجاجا على انتهاك حرمة الجامعة، والاعتداء على طلابها نبهتنا إلى أن للنخبة المصرية وجها آخر مشرفا يستحق منا كل تقدير واحترام. وهو ما يحيى فى نفوسنا املا فى المستقبل ما برح يتضاءل ويخبو جراء ممارسات بعض نماذج النخبة التى استأثرت بالأضواء وتصدرت الواجهات، وأصابتنا بالإحباط وخيبة الأمل خلال الأشهر الأخيرة.
أتحدث عن وقفة الرجال التى عبر عنها أعضاء هيئة التدريس بكلية الهندسة وعلى رأسهم العميد والوكلاء، الذين تمسكوا بالدفاع عن كرامة الجامعة وطلابها، رافضين الانخراط فى اللعبة السياسية والتحول إلى أدوات تابعة للسلطة أو امتدادات للأجهزة الأمنية.
القصة ظهرت فى الفضاء الإعلامى فى نهاية شهر نوفمبر الماضى، حين كانت المظاهرات الاحتجاجية تعم جامعة القاهرة، ولم تستثن كلية الهندسة من ذلك، وهو ما كان سببا فى تواجد مكثف للشرطة فى محيط الجامعة. لكن الخبر فرض نفسه على الصفحات الأولى للصحف حين قتل (يوم الخميس 25 نوفمبر) طالب الهندسة محمد رضا، الذى كان واقفا مع آخرين يرقب زملاءه المتظاهرين ولأن الصور سجلت إطلاق الشرطة النار على المتظاهرين داخل الكلية، فإن 140 استاذا بالكلية أصدروا بيانا أدانوا فيه موقف الشرطة واستنكروا الاعتداء على حرمتها، من ثم اعلنوا تعليق الدراسة. وطالبوا باعتذار الداخلية والتحقيق فى الأمر لتحديد المسئول عن الجريمة التى وقعت. فى الوقت ذاته أصدر رئيس الجامعة الدكتور جابر نصار بيانا عبر فيع عن إدانة موقف الشرطة وأعلن عن تشكيل لجنة قانونية لمتابعة الموضوع والتحقيق فى وقائعه.
ما جرى بعد ذلك كان مفاجئا، إذ من الواضح أن الداخلية رفضت موقف أساتذة الكلية ورئيس الجامعة، وقرأنا فى الصحف الصادرة فى اليوم الأول من شهر ديسمبر الحالى أن تحقيقات النيابة توصلت إلى أن طلاب الإخوان هم الذين أطلقوا الخرطوش الذى قتل الشاب محمد رضا. وهو ما ضاعف من غضب الطلاب والأساتذة، فاستمر تعليق الدراسة، ودفع عميد الكلية ووكلاءها إلى تقديم استقالاتهم من مناصبهم، الأمر الذى اضطر رئيس الجامعة إلى إصدار بيان آخر يوم الأربعاء الماضى 11/12 أعلن فيه النبأ، وطالب المستقيلين بأن يستمروا فى مواقعهم لحين البت فى الأمر. كما أعلن إنهاء الفصل الدراسى الأول فى اليوم ذاته، على أن تجرى الامتحانات فى موعدها يوم 28/12، بحيث يمتحن الطلاب فى القدر الذى تم تدريسه. لم يشر بيان رئيس الجامعة إلى جهد اللجنة القانونية التى أعلن عن تشكيلها لتحرى الأمر، رغم مضى عشرة أيام على بيانه الأول، ولم يثبّت موقفه الذى سبق أن عبر عنه حين حمل الشرطة المسئولية عن قتل الطالب محمد رضا ودعا إلى محاسبة المسئولين عن العدوان على استقلال الجامعة وطلابها، ومن ثم بدا البيان الثانى أقل حزما ووضوحا من البيان الأول، وغدا موقف عميد الهندسة ووكلائها متقدما كثيرا عليه.
فى الوقت الراهن فإن طلاب الهندسة اعتصموا فى كليتهم احتجاجا على قتل زميلهم ولفلفة قضيته، كما أن التظاهرات لم تتوقف فى بقية كليات الجامعة الأمر الذى أدى إلى تعليق الدراسة فى الكليات النظرية كما ذكرت صحف الخميس 12/12. وهى التى تحدثت عن استمرار، المظاهرات فى جامعة الأزهر وبسببها تم فصل 300 طالب وطالبة، وتواصلها فى جامعات الإسكندرية و عين شمس و المنصورة وكفر الشيخ. وأصدر بعض أساتذة جامعة الإسكندرية بيانا أعربوا فيه عن تضامنهم مع طلابهم ومع 11 استاذاً معتقلاً، فى حين أصدر نحو 30 من أساتذة الجامعة الأمريكية بيانا قويا دافع عن استقلال الجامعة وعن حق طلابها فى التفكير والتعبير الحر، وأكد على أن أمن البلاد واستقرارها مرتبط باستقلال الجامعة. وذكر البيان الاخير أن الاعتداء على استقلال الجامعة بدا بمشروع قرار من المجلس الأعلى للجامعات يعطى أمن الجامعة سلطة الضبطية القضائية. وبعد صدور قرار مجلس الوزراء بمنح الشرطة سلطة الدخول إلى الجامعة دون إذن منها، وهو ما فتح الباب للانتهاكات الصارخة التى مارسها الشرطة، وأدت إلى قتل طالب بجامعة الأزهر وهو فى مسكنه الجامعى إجراء استخدام قنابل الغاز ومقتل طالب الهندسة برصاص الشرطة وهو داخل حرم كليته.
الخلاصة أننا صرنا بإزاء مشهد يتصاعد فيه غضب الطلاب ويتسع نطاق تظاهراتهم، وقد ترك للشرطة وحدها أمر التعامل معهم، الأمر الذى فتح الباب للتجاوزات التى اججت الغضب فى الوسط الجامعى، وفى حين ظلت المنابر الإعلامية طول الوقت تتهم الطلاب والطالبات بالمسئولية عما يجرى، فإن بعض أساتذة الجامعة الشجعان أصبحوا يقفون وحدهم مدافعين عن استقلالها وكرامة طلابها، ولئن خفت صوت رئيس جامعة القاهرة وسكت آخرون من نظرائه فى الجامعات الأخرى، فإن عميد هندسة القاهرة ووكلاؤها وحدهم الذين انحازوا إلى الاختيار النزيه بين ثنائية الموقع والموقف. وحين قدموا استقالاتهم فإنهم سجلوا اسماءهم فى قائمة الشرفاء الذين دافعوا عن استقلال الجامعة وكرامتها، وهى القائمة التى يتصدرها الدكتور أحمد لطفى السيد الذى استقال من رئاسة جامعة القاهرة، مرتين فى ثلاثينيات القرن الماضى. مرة فى عام 1933 حين فعلها احتجاجا على نقل الدكتور طه حسين من عمادة الآداب إلى وزارة المعارف بالمخالفة لتقاليد الجامعة. ومرة ثانية فى عام 1937 حين دخلت الشرطة إلى حرم الجامعة واعتدت على استقلالها ــ طوبى للشرفاء الذين يضحون بالموقع حفاضا على الموقف.
نقلاً عن "الشروق"