فهمي هويدي
أول مقال قرأته فى العام الجديد كان أحد عناوينه يتحدث عن «موسم العبط فى مصر»، وقد نشرته مجلة الإيكونوميست فى عدد الأول من شهر يناير، الموضوع الأساسى للمقال هو اللغط الذى أثير فى مصر وتحقيقات النائب العام بخصوص إعلان ترويجى استعانت به شركة الهاتف المحمول الشهيرة للدعاية لمنتجاتها، بطلة الإعلان شخصية باسم «أبلة فاهيتا»، التى تجرى حوارات اعتبرها البعض محملة برسائل ورموز مشفرة تضمنت توجيهات لها علاقة بالعمليات الإرهابية.
مقال الإيكونوميست يعبر عن الدهشة إزاء المستوى الذى وصل إليه الهوس الأمنى فى مصر، الذى بدا أقرب إلى السَفَه والعبط منه إلى اليقظة والحذر. ما لاحظته فى الموضوع أن أطرافا فى الإعلام الأمنى والنيابة العمومية أخذت المسألة على محمل الجد، وهو موقف قوبل من جانب المعلقين فى مواقع التواصل الاجتماعى بدرجات مختلفة من الدهشة والسخرية. الأمر الذى يحير المرء ويدفعه إلى التساؤل عن مدى تعبير هذا الموقف أو ذاك عن حقيقة المزاج الشعبى فى مصر.
يدفعنى إلى ذلك أننى كنت قد قرأت عن العلاقة الوثيقة بين أداء النخب فى المجتمع وبين المستوى الحضارى للشعوب، وهى الفكرة المحورية فى كتاب شهير عنوانه «السياسة بين الأمم»، الذى ألفه عالم السياسة الأمريكى مورجان ثاو، واعتبر فيه ان الرؤية الاستراتيجية لكل بلد هى ثمرة تفاعل بين المصلحة الوطنية من جهة والقدرات الوطنية من جهة ثانية. وهذه القدرات الأخيرة تتحدد فى ضوء عاملين، أحدهما متغير والثانى ثابت. الأول يتمثل فى الامكانيات الاقتصادية والصناعية والقوة السياسية التى يعبر عنها التأييد الشعبى والحضور الدبلوماسى.
أما العامل الثابت فهو يتمثل أولا فى الوضع الجغرافى وثانيا فيما يصفه مورجان ثاو بالطبع الوطنى. وهذه النقطة الأخيرة هى التى تهمنى فى الموضوع. ذلك أن الكاتب فى تحليله للطبع الوطنى عُنى بالإشارة إلى بعض النماذج، فذكر ان الإنجليز مشهورون ببرودة دمِّهم، وإن الفرنسيين يتسمون بالعقلانية الديكارتية، فى حين أن الروس معروفون بخوفهم من السلطة ومن الأجنبى. وهو ما دفعنى إلى التساؤل عما إذا كان للعرب طبعا وطنيا واحدا، أم ان اختلاف أقطارهم وتوزعهم على رقعة جغرافية مترامية الأطراف جعل لكل قطر أو إقليم طبعه الوطنى المتميز.
وفى هذه الحالة يثور السؤال عن الطبع الوطنى للمصريين، وما إذا كانت الصورة المرسومة فى الفضاء الإعلامى والسياسى الراهن تعبر حقا عن المستوى الحضارى للشعب المصرى. وهذا التساؤل الأخير يكتسب أهمية خاصة عندى ليس فقط بسبب رابطة الانتماء المفهومة، ولكن أيضا لأننى أزعم أن الأفق السياسى والإعلامى فى مصر بات يعانى من التلوث والتشوه الذى يسرب إلى المرء شعورا بالقلق والخوف من أن يكون بحالته تلك ممثلا للمستوى الحضارى للشعب.
ليس بمقدورى أن أجيب على شق السؤال المتعلق بالطبع الوطنى للأمة العربية أو شعوبها، بسبب شح الدراسات التى عالجت الموضوع، إلى جانب أننا فى العالم العربى أكثر ميلا إلى تمجيد الذات منا إلى نقدها، علما بأن ذلك التمجيد له جذوره الممتدة إلى عصور الجاهلية. وإذا جاز لى أن أتحدث عن مصر فلعلى أقول إن تمجيد الذات له نبرته العالية، فى حين أن نقدها يقابل بالاستهجان والدهشة. ومصطلح «أم الدنيا» يغلق الباب أمام أى محاولة للمراجعة والنقد. وحسب معلوماتى فإن الدراسات التى أجريت حول وصف تقاليد المصريين وأعرافهم أوفى بكثير من تلك التى قامت بتحليل الشخصية المصرية. كما ان ثمة ندرة شديدة فى الدراسات التى تناولت القيم السائدة فى أوساط المصريين فى أطوار حياتهم المختلفة. لذلك أذهب إلى أن التطرق إلى الموضوع فى الوقت الراهن يعتمد على الانطباعات بأكثر من اعتماده على البحوث والدراسات.
فى إطار الانطباعات أسجل الملاحظات التالية:
• إن المرحلة الانتقالية التى تمر بها مصر والتى تتسم بالسيولة وبعدم الاستقرار لا توفر ظرفا مواتيا لتقييم أو تحليل القيم السائدة، ومن ثم رسم خريطة معبرة حقا عن الطبع الوطنى للمصريين.
• إن الصراع المحتدم الآن أحدث انقلابا فى وعى المصريين، حتى وجدنا أن المجتمع الذى صوت خمس مرات لصالح استفتاء وانتخابات النظام السابق والذى هتف ضد العسكر، هو ذاته الذى استسلم لموجة كراهية النظام السابق وأهله، وباتت أبواقه تتوق إلى حكم العسكر.
• إن ذلك الصراع والتعبئة الإعلامية التى صاحبته استخرجا من عامة المصريين أسوأ ما فيهم، بقدر ما أن التوافق فى ثورة يناير استخلص منهم أفضل ما فيهم. لذلك فإن الظرف الراهن لا يعد توقيتا مناسبا لإجراء التقييم المنشود.
• إن تغييب الديمقراطية فى مصر لأكثر من خمسين عاما دمر الحياة السياسية وشوهها، بحيث بات متعذرا علينا أن نتحدث عن طبقة سياسية حقيقية فى البلد، وإنما صرنا بإزاء هواة يمارسون السياسة وليسوا سياسيين محترفين. الأمر الذى فى ظله يتعذر القول بأن الطبقة السياسية الراهنة تعبر حقيقة عن المجتمع المصرى أو عن طبعه. وحين يصبح هؤلاء منتخبين من المجتمع وليسوا مفروضين عليه من خلال الإعلام أو غيره فإن ذلك يكون مدعاة للاطمئنان إلى تمثيلهم للرأى العام المصرى. وحينئذ فقط يمكن اعتمادهم كأحد عناصر تقدير الطبع الوطنى للمصريين.
نقلاً عن "الشروق"