فهمي هويدي
أتابع بمزيج من مشاعر الارتياح والخجل ما تتناقله وسائل الإعلام من أخبار مقاطعة المؤسسات الغربية لإسرائيل. ولست أخفى سبب الارتياح إزاء أى ضرر أو أذى يصيب إسرائيل طالما استمرت فى انتهاكها لحقوق الفلسطينيين وتهديدها لأمن الأمة العربية. حيث لا زلت عند رأيى الذى أعلنته قبل سنوات وقلت فيه إن كراهية إسرائيل المغتصبة والمتوحشة فرض عين على كل عربى وكل مسلم. ولاحقا أضفت أن كراهية من لا يكرهون إسرائيل فرض كفاية. والأولون يخرجهم موقفهم من الملة الوطنية. أما الآخرون فخيارهم لا يجرح وطنيتهم لكن موقفهم يعد من المكروهات وليس المحرمات.
الخجل مرجعه أننى أجد أن مبادرات المقاطعة تأتينا من العواصم الغربية، ويقدم عليها نفر من شرفاء القوم وأصحاب الضمائر الحية بينهم، فى حين أفتش كل صباح عن خبر من ذلك القبيل قادم من العواصم العربية فلا أكاد أجد له أثرا. وأصدم وأغتم حين يحدث العكس أحيانا، حين أسمع تسريبات تتحدث عن مراكز إسرائيلية تقام فى صمت فى بعض الدول العربية وشركات إسرائيل تمارس التجارة أو تعمل فى مجال الأمن فى دول أخرى.
قرأت أن جمعية الدراسات الأمريكية (الأقدم والأهم بين الجمعيات الأمريكية المتخصصة فى دراسة التاريخ والثقافة) قررت مقاطعة الكليات والجامعات الإسرائيلية احتجاجا على سياسة الدولة العبرية إزاء الفلسطينيين، واحتجاجا على الانتهاكات الإسرائيلية للقانون الدولى وقرارات الأمم المتحدة التى أصبحت المؤسسات التعليمية الإسرائيلية طرفا فيها. وكانت الجمعية التى تضم خمسة آلاف عضو قد طرحت القضية المثيرة للجدل فى تصويت عبر الإنترنت، وأوضحت أنه من بين 1252 عضوا من أعضائها الذين أدلوا بأصواتهم وافق 66٪ منهم على القرار ورفضه 30.5٪. وهذه هى ثانى منظمة اكاديمية أمريكية تعلن مقاطعة إسرائيل. بعد جمعية الدراسات الآسيوية الأمريكية.
قرأت أيضا أن وزارة الخارجية الإسرائيلية استدعت السفير الهولندى فى تل أبيب للاحتجاج على ما وصفته بـ«الحوادث المعادية لإسرائيل» فى هولندا فى الشهور الثلاثة الأخيرة. وكان آخرها صدور قرار عن صندوق التقاعد الهولندى يقضى بسحب أمواله من بنوك إسرائيلية لوجود فروع لهذه البنوك فى المستوطنات وتعاملها مع شركات تقوم بتنفيذ عمليات البناء فى المستوطنات.
ومن الإجراءات الحكومية التى اتخذت فى هذا السياق قيام الاتحاد الأوروبى فى العام الماضى بإلزام إسرائيل بتصنيف منتجاتها القادمة من المستوطنات. وقد بدأ تنفيذ الخطوة التالية لذلك القرار من العام الحالى (2014) حيث تمت مقاطعة أية أنشطة أو مؤسسات إسرائيلية تقام أو يكون مصدرها الأراضى الفلسطينية المحتلة، والمستوطنات هى المقصودة بذلك. وأدى إلزام الاتحاد الأوروبى لإسرائيل بتصنيف منتجاتها القادمة من المستوطنات إلى إلحاق خسائر كبيرة فى المستوطنات الإسرائيلية الزراعية فى الأغوار حيث تقام مشاريع زراعية ضخمة مخصصة للتصدير للاتحاد الأوروبى. وأعلن رئيس مجلس المستوطنات فى الأغوار فى لقاء مع وسائل الإعلام قبل أيام أن خسائر كبيرة لحقت بمنتجات المستوطنات جراء قرار الاتحاد الأوروبى المذكور. بلغت مائة مليون شيكل (أكثر من 30 مليون دولار). وقال إن قيمة الصادرات الزراعية لمستوطنات الأغوار إلى دول الاتحاد الأوروبى انخفضت العام الماضى من 700 مليون شيكل (210 ملايين دولار) إلى 600 مليون شيكل (180 مليون دولار). وأعرب عن قلقه من تزايد معدلات الخسائر فى العام الجديد جراء تزايد المقاطعة الشعبية فى أوروبا، بخاصة فى بريطانيا، لمنتجات المستوطنات. وقال إن عددا متزايدا من المحال التجارية فى أوروبا بات يعزف عن عرض منتجات المستوطنات تجنبا للاحتجاجات التى تقوم بها حركة المقاطعة لإسرائيل.
يضاف إلى ما سبق أن نقابات كبيرة فى بريطانيا والنرويج تضم فى عضويتها أكثر من سبعة ملايين عامل قررت مقاطعة إسرائيل. ومن هذا القبيل أيضا قيام شركات بإلغاء عقود عمل فى المستوطنات مثل شركة القطارات الفرنسية «فيولا» التى ألغت عقدا مع الحكومة الإسرائيلية لأن المشروع المتفق عليه مقام فى الأراضى الفلسطينية المحتلة.
الملاحظ أن حملة حركة المقاطعة الدولية لإسرائيل التى حمل الرمز BDS لقيت دفعة كبيرة فى العام السابق (2013)، فى حين بدا الأفق مسدودا أمام خيار المفاوضات، كما وصل العمل العسكرى الفلسطينى إلى طريق مسدود. الأمر الذى رفع من منسوب التعويل على المقاطعة الدولية من جانب والمقاومة الشعبية من جانب آخر. فى حين يأمل الناشطون الذين يقفون وراء حملة المقاطعة الدولية فى حث دول العالم على مقاطعة إسرائيل عسكريا، باعتبارها ثالث أكبر مصدر للسلاح فى العالم.
لا أعرف أين الحكومات العربية من كل ذلك؟. السؤال للاستنكار وليس للاستفهام. لاننا نعلم أن أغلب تلك الحكومات إن لم يكن كلها بين منكفئة على أوضاعها الداخلية أو مديرة ظهرها للقضية الفلسطينية أو منخرطة فى «الاعتدال» الذى يغطى التصالح مع إسرائيل فى السر أو فى العلن. وما يقال بحق الحكومات يسرى بدرجة أو أخرى على النخب الطافية على السطح والمرتبطة بالحكومات. بحيث ما عاد أمامنا سوى المراهنة على المجهولين فى العالم العربى، الذين لم تتشوه مداركهم واحتفظوا بضمائرهم حية كما هى. ذلك أن هؤلاء الانقياء المجهولين وحدهم المؤهلون للاحتفاظ بالقضية التى كانت مركزية يوما ما وهم المرشحون للدفاع عنها فى الحاضر والمستقبل.
إزاء اختفاء كل أثر للمقاطعة العربية، وإلى ان ينتفض هؤلاء المجهولون فاننا سنظل نعلق أملنا على الشرفاء الغربيين الذين ينوبون عنا فى فضح وجه إسرائيل القبيح. وهو ما يبقى على شعورنا بالارتياح والخجل، حتى إشعار آخر على الأقل.
نقلاً عن "الشروق"