فهمي هويدي
لدينا فى مصر إرهاب قانونى يمارسه «شبيحة» قابعون فى الظل. جاهزون للتنكيل بأى شخص من خلال تلويث سمعته واغتياله أدبيا وسياسيا، والأمر بسيط جدا وسهل للغاية. إذ ما على الواحد منهم سوى أن يقدم بلاغا إلى النائب العام ينسب إلى الشخص المستهدف تهما من قبيل تكدير الأمن العام أو زعزعة الاستقرار أو إثارة الفتنة وتهديد الوحدة الوطنية. أو غير ذلك من العناوين الفضفاضة التى تتسع للعديد من الأفعال والجرائم التى يمكن أن يرمى بها أى أحد. وفى هذه الحالة فإن البلاغ يفحصه النائب العام لكى يحدد إمكانية تحويله إلى وكيل النيابة المختص للتحقيق فيه، وفى الوقت ذاته قد يقوم البعض بتسريب الخبر إلى الصحف ضمن حملة التشويه المرتبة. ومثل هذه البلاغات إما أن تتم لحساب أشخاص يستهدفون الكيد والإيقاع بالمخالفين لهم، وإما أن تتم لحساب الأجهزة الأمنية التى توعز لرجالها فى أوساط المحامين باتخاذ ما يلزم فى إطار حملة التخويف والترويع التى تلجأ إليها لتأديب وإنذار من لا ترضى عنهم.
هذا الأسبوع نشرت الصحف والمواقع الإلكترونية أن أحد المحامين قدم بلاغا إلى النائب العاما ضد باسم يوسف صاحب «البرنامج»، لأنه قدم حلقة يوم الجمعة الماضى سخر فيا من الهرج والمزايدة الإعلامية التى باتت تملأ الفضاء المصرى فى تزكية المشير عبدالفتاح السيسى وترشيحه رئيسا للجمهورية، وهو ما اعتبره المحامى المذكور دعوة إلى زعزة الاستقرار وبث الكراهية. واللافت للنظر أن حلقة البرنامج أذيعت مساء الجمعة، فى حين أن البلاغ قدم يوم السبت، الأمر الذى يوحى بشبهة التربص والتصيد. وفى حدود علمى فإن البلاغ ليس الأول من نوعه، ولكن بلاغات مماثلة سبق أن قدمت ضده ولم تؤخذ على محمل الجد. ومثل هذه البلاغات التى تلاحق المئات من البشر ترفع شعار «العيار الذى لا يصيب فإنه يدوِّى ويفزع». بمعنى أن أى طلق نارى إذا لم يصب هدفه فإنه يحدث دويا ويروع الطرف المستهدف.
بعد تقديم البلاغ فإن مكتب النائب العام يفحصه، ومصيره يختلف من حالة إلى حالة، والاختلاف هنا ليس مرجعه إذا كان المشكو فى حقه بريئا أم أن التهمة الواردة فى البلاغ جديرة بالبحث، ولكن المصير يتحدد غالبا فى ضوء المواءمة السياسية والموقف الأمنى منه، فثمة بلاغات تحفظ ويكتفى فيها بالفرقعة الإعلامية التى تحدث جراء تسريب الخبر إلى الصحف. وهناك بلاغات أخرى تخزن فى مكتب النائب العام مراعاة لحسابات معينة أمنية أو سياسية. وعملية التخزين قد تستمر عدة سنوات. ولا يمنع ذلك من تحريك البلاغ وإخراجه من «الثلاجة» فى ظروف سياسة معينة. وهناك بلاغات أخرى تخص غير المرضى عنهم تحال إلى النيابة المختصة خلال ساعات أو فى اليوم التالى مباشرة، لأن أجهزة السلطة تقف وراءها.
فى هذه الحالة الأخيرة يحال البلاغ للتحقيق فيه، ويستدعى المشكو فى حقه إلى النيابة لسماع أقواله، وقد تأمر النيابة باحتجازه أو تصرفه لحين استكمال التحقيقات فى جلسة أخرى أو لحين استطلاع رأى جهاز الأمن القومى، وفى الذهاب والعودة تتناقل الصحف الخبر، ويظل صاحبنا متهما ومشتبها فيه، كما أنه يصبح محلا للغمز واللمز من جانب شبيحة الإعلام من كتبة التعليقات الصحفية. وفى النهاية إما أن يكتفى بشد الأذن وتلقى الإنذار من خلال حملة التأديب والتشهير فيحفظ التحقيق معه، وإما أن يحال الأمر إلى القضاء لكى يذهب الرجل وراء الشمس.
إذا دققنا فى الصورة جيدا فسوف نجد أن المسألة لها أبعاد وأعماق أخرى. من ناحية فإن البلاغات التى تقدم ضد المخالفين المراد التشهير بهم والكيد لهم لا تقتصر على مجموعة من المحامين أو المزايدين الذين يقفون ببلاغاتهم على باب مكتب النائب العام. ولكنها أيضا تكمن فى الدور الذى تلعبه السياسة والأمن فى تحديد مصائر تلك البلاغات، من ناحية أخرى، فإن أمثال أولئك الشبيحة موجودون فى مجالات أخرى، الإعلام فى مقدمتها. ذلك أن بعض المحامين إذا كانوا يتقدمون ببلاغاتهم مباشرة إلى النائب العام، فإننا نجد بعض الكتاب ينشرون بلاغاتهم على صفحات الصحف، لإحداث أثر التشهير والتخويف فى أوساط الرأى العام من ناحية ولإبلاغ الجهات الأمنية المعنية من ناحية ثانية. على صعيد آخر فإننا لا نستطيع أن نعفى المناخ العام من المسئولية عن تفشى تلك الظاهرة. ذلك أنه إذا كان أصحاب البلاغات يحاولون تشويه وتخويف بعض الأبريياء، فإن ممارسات السلطة ذاتها تقدم نموذجا يحتذيه هؤلاء. والعناوين التى سبقت الإشارة إليها ــ تكدير الأمن العام أو زعزعة الاستقرار...إلخ ــ خرجت أصلا من عباءة السلطة، وبسببها أقحم مئات من الأبرياء فى قضايا لا علاقة لهم بها، وعلى ذمتها جرى اعتقالهم وصودرت أموالهم، ومن هؤلاء اثنان اعرفهما توفاهما الله قبل سنوات (هما الدكتور عبدالحميد الغزالى الذى كان أستاذا بكلية الاقتصاد والعلوم السياسة والمهندس جلال عبدالسميع الذى كان مديرا عاما بمصلحة التليفونات فى كفرالشيخ).
إن الدولة بأدائها وبالنموذج الذى تقدمه تقوم بدور المربى الذى يرشد الناس ويعلمهم الاستقامة والأدب أو العكس، وفى هذه الحالة فإن انتشار سوء الأدب يجب أن يحاسب عليه المربى أيضا، وليس الأبناء المنحرفون وحدهم.
نقلاً عن "الشروق"